12 سبتمبر 2025
تسجيلقد لا تظهر هناك علاقة مباشرة بين الوضعية الثقافية لدى شعبٍ ما، ونوع السيّارة المفضّلة لديه أو المُستخدَمة على نطاق واسع بين أفراده. على اعتبار أنّ نوع السيّارات لا يعبّرُ بالضرورة عن نمطٍ تفضيلي يكتنز بداخله مُعطى ثقافي، يمكن القياس عليه بوضوح تام؛ إنما قد تنحصر دلالته -أغلب الأحيان- في كونه مؤشرا بسيطا للوضع الاقتصادي العامّ في البلاد، ومرآة لمستوى الرخاء الذي يعيشه المواطنون. ولكن من المهم أن نتساءل: مثل هذا التصوّر الذي لا يعطي أهمية لموقع السيّارات في المحيط الثقافي لدى شعبٍ ما، هل يبدو قادرًا بالفعل على تحليل المسألة بعمق؟ أو كشْفِ المُخبّئ في علاقة نوع السيارة، بالنمط السائد من ثقافة أصحابها؟ بادئ ذي بدء فلا شك أن هذا المبحث لم يُشبَع -إذا كان قد دُرِسَ أساسًا- ضمن حقول الدراسات الحَضَريّة/المدينية والأنثروبولوجية العربية، ربّما بسبب حداثته أو هامشيّته أو لقلة اكتراث الباحثين العرب بهكذا مسألة ليس لها مكان رفيع في سلّم الأولويات البحثية. إلا أن الأمر رغم وجاهة الأسباب المذكورة آنفًا، يبقى ذا أهميّة لدى المهتمّين بتحولات المكوّن الثقافي لدى مجتمعات الخليج المعاصرة، وآلياتها الانتقالية، ومفاصلها الريعية، وتفاصيلها المتغيّرة. إن السيّارة لا تُعَدُّ مُجرّد سيّارة، أو مركوبًا للنقل وحسب، إنّما هي أقرب إلى أن تكون رمزًا اجتماعيًّا في الدرجة الأولى -وثقافيًّا في الدرجة الثانية- يسير على أربعة أقدام، ويختزل في شكله ومستواه وقيمته الماديّة سِمات وخصائص وأحوال شعبيّة (وبلاديّة) تدلّ على أمورٍ عدّة، مثل: علامات الطبيعة الجغرافية، النطاق المكاني للهِوايات المُفضَّلَة، متوسّط القدرة الشرائية، وغير ذلك من الشواهد. تفتح لنا سيارة اللاندكروزر بابًا واسعًا على قصّة مُثيرة، تداخلَ فيها السلمُ بالحرب، وارتبط من خلالها الإبداع البشري بضرورة تجاوز الإنسان لصعوبات الطبيعة والخروج من قيود إكراهاتها. تعود القصة إلى عام 1935م إذ وضع المخترع والميكانيكي الياباني كيشيرو تويودا خمسة مبادئ لمشروعه الجديد وتألفت من: الخيال، التجريب، التواضع، الاحترام والابتكار. مهّدت هذه المبادئُ المجالَ نحو تصنيع أولى سيّارات تويودا في 1936م، ومن ثمّ شكلت قاعدةً لشركته التي دشّنها عام 1937م باسم تويوتا موتورز. بعد تدشين شركة تويوتا بأعوام دخلت اليابان في أتون حربٍ عظمى، بلغ أوج تدميرها مع اللحظة التي ألقت فيها أمريكا قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي في أغسطس 1945م، ما أسقط اليابان في أيدي الأمريكان بشكل كُليّ. خلّفت القنبلتان خرابًا هائلًا، ودمارًا ماحقًا، وأثرًا مريرًا في نفوس اليابانيين، ولكن ذلك لم يستطع اجتثاث عزائمهم نحو النهوض من جديد. في عام 1950م، بينما لا تزال اليابان تحت الاحتلال الأمريكي، قامت كوريا الشمالية بغزو جارتها الجنوبيّة، ما دفع الأمريكان إلى التدخل المباشر لتحرير الجنوبيين، ولكن قواتهم البريّة اضطرّت إلى الاستعانة بوسائل نقل برية من أجل قيادة المعركة بثبات. بحثتْ أمريكا عمّن يستطيع أن يُصنّع لها مركبةً عسكريّةً بمواصفات عالية، يمكنها التكيّف مع التضاريس الكورية المعيقة للحركة. من هنا بزغت فكرة سيارة الدفع الرباعي، التي وُجدِتْ ضالّتها عند تويوتا، إذ لم تتوان تويوتا في الانخراط نحو تصميمها وتطويرها وتصنيعها مطلع عام 1951م، وبيعها مباشرةً إلى الجيش الأمريكي. جاء ذلك بمنطلقٍ إنسانيٍّ يتمثّل في نجدةِ شعبٍ مُحتَلّ، حسب تصوّر اليابانيين للموقف، إلى جانب -وبلا ريب- تأثير حالة التبعية التي كانت تعيشها اليابان. وكما كان مُتوقّعًا، أبلت اللاندكروز بلاء حسنًا، أمام شتّى التحديّات البيئية والأمنية التي فرضتها الحرب الكورية. وتمكّنت كوريا الجنوبية في الأخير من صد العدوان الشمالي في صيف 1953م، فكانت هزيمة الشماليين -بوجه من الوجوه- بمثابة تتويج لسيارة اللاندكروزر، حيث تحوّلت إلى نموذجٍ صِناعي مثاليّ، دفع القائمين على الشركة إلى اعتماده على صعيد التصدير التجاري العالمي. صُدّرت أولى سيّارات اللاندكروزر إلى باكستان في 1954م. وبعد ذلك بعام، أي في 1955م وطأتْ اللاندكروزر أرض الخليج للمرة الأولى في تاريخها، وتحديدًا في المملكة العربية السعودية، لتبدأ من ثَمَّ تلك العلاقة الحميمية، والحكاية الرومانسية، بين قفار الجزيرة وحدائد الكروزر. وجد اللاندكروزر في الرمال العربية محيطًا هادرًا. ووجد عربُ الجزيرة فيه خير عِوَضٍ عن ركائبهم التي كانت فيما مضى سبيلهم الوحيدة في السفر، إذ طالما مخروا فوقها عُباب المَفاوز، وقطعوا بها كيدَ الفَيافْ. في عام 1958م أسّس رجل الأعمال الراحل عبدالله عبدالغني ناصر وإخوانه شركتهم التجارية في الدوحة. مثّلت الشركةُ الوكيلَ الحصري لشركة تويوتا، وبدأ من خلالها توريد مركبات التويوتا. وبسبب صعوبة التثبت من العام الذي شهد أوّلَ وصولٍ للاندكروزر إلى أرض قطر بشكل قاطع، يمكن القول أنّها وصلت في الحدود بين 1956 – 1960م، في أقصى تقدير. قضت العادة، أن يقتصر ورود المصنوعات الجديدة أوّلَ ورودها على النخبة الفاعلة سياسيًّا وتِجاريًّا، ومن ثم على كل فرد من داخل دائرة النفوذ والفعل باعتباره يمتلك الميزانية المادية التي تمكنّه من اقتناء الجديد. لم يكن اللاندكروزر بِدعًا من هذه المعادلة، حيث وُجِدَ بادئ أمره عند قلة قليلة من الشعب. ولا مانع هنا من الإشارة بأن مفهوم الشعب القطري لم يكتمل تشكّله إلا بعد استقلال الدولة في سبتمبر 1971م، وهذا يفيد أن عملية تكوّن الأمة الصغيرة في أيّما بلدٍ من البلدان العربية قد تزامن بشكل حادٍ ومُتجاذَبٍ مع تكوّن ثقافتها الخاصّة، وذلك في ضوء معطياتها الطبيعية والتاريخية. بالرغم من وجود صعوبة في تأطير المحدد الأساس الذي يحكم عملية انتشار نوع من السيّارات على حساب نوعٍ آخر، فضلًا عن تفسير الحالة التي يكون فيها انتشار الأنواع المختلفة من السيّارات: متقارب أو شبه متساوٍ، إلا أننا نستطيع حصر تلك المحددات في عوامل أربعة مثل: الطبيعة البيئية، متوسط القدرة الشرائية لدى المواطنين، كفاءة عمل السيّارة، وانخفاض تكلفة إصلاحها وقطع غيارها. وإذا أقررنا حقيقة هيمنة اللاندكروز على شوارع قطر في وقتنا المعاصر، كما هو مُلاحَظ، فالحقيقة الأخرى تقول إن انتشاره أخذ وقتًا طويلًا حتى وصل إلى أكبر شريحة ممكنة، بل إنه لم يصبح المركب الأكثر استخدامًا إلا بعد عام 2000م، وهذا يعني أن اللاندكروزر ولكي يصبح رقم واحد في قطر فإن ذلك اقتضى من تويوتا أن تبذل جهدًا دؤوبًا غير منقطع على مدى أربعين عامًا، بالقدر الذي استلزم فيه بعض التحولات الإيجابية في اقتصاد البلد. ترجع أسباب هذا الوقت الطويل الذي استهلكته تويوتا من أجل نجاح اللاندكروزر في قطر إلى وجود منافسين كُثُرِ من السيّارات الأمريكية والأوروبية، إلى جانب احتدام المنافسة مع شركة نيسان اليابانية، الغريم التقليدي لتويوتا. كما كان اللاندكروزر في فترة السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي أقل تطوّرًا وجودة وفعالية من موديلاته الحديثة -وبصورة أدق- من (لاندكروزر 2008) فصاعدًا، وهذا سبب رئيس جعل من إمكانية انتشاره اليوم أسهل وأوسع منها في المراحل السابقة. شكّلت بداية الألفية الجديدة طفرةً للاندكروزر ليس فقط في سجلات البيع والشراء لدى وكالة عبدالله عبدالغني أو لدى معارض السيّارات المتعاونة، ولكن أيضًا في المخيال الشعبي القطري، إذ بدأت تتنامى صورة هذه السيارة أوّلًا في الوعي العام عبر الاحتكاك العيني المباشر وما يبعثه من إعجابٍ بنمط تصميمها وقوّتها وحجمها. وثانيًا في حوارات المجالس والأحاديث الجانبية في مقرّات العمل وما يكتنفه من استعراض. وثالثًا في انطباع تجربة اللاندكروزر في الواقع اليومي، نتيجة إشباعها رغبة الفرد وحاجة الأسرة، ما أدى إلى نجاح السيارة بشكل منقطع النظير، وشيوعها وانتشارها؛ ولن يكون هناك اختلاف في الرأي -على ما يبدو- حول الارتباط الشديد بين المسارات الثلاث من التنامي -المذكورة آنفًا-، وبين ارتفاع مبيعات اللاندكروزر في مختلف الأوساط القطرية. لم تتسم بنية الثقافة في دول الخليج بصلابةٍ تجعلها في وضعية الممانعة، إنّما هي أقرب للانكشاف أمام تدفّق المنتجات الصناعية والاستهلاكية الحديثة، وهذا ما جعل الثقافة الشعبية عمومًا تتجه إلى استبدال أدواتها وملبوساتها وآلاتها من فترة لأخرى، تحت التأثير، ولكن ذلك لم ينطبق على اللاندكروزر طوال الأعوام العشرين الماضية من تاريخ قطر المعاصر. وإذا كان لارتفاع المداخيل الشهرية وانتعاش الاقتصاد المحلي الأثر البارز في ترسّخ مكانة اللاندكروزر شيئًا فشيء، فإن هذه المركبة المثالية قد استطاعت أن تجمع بين الشرط الذوقي المرغوب والضرورة العملية المطلوبة. ولا غرابة إذن في حال وصل الأمر إلى أن يجهد بعض الأفراد والجماعات في بذل ما يملكون وما لا يملكون، فقط من أجل تحقيق ذوقهم واستيفاء حاجتهم، تعزيزًا للمكانة الاجتماعية أو تأكيدًا على فكرة المساواة. هذا بالضبط ما يصنع من اللاندكروزر رمزًا ذا مدلولات ثقافية معقّدة، يمكن عبر الخوض فيها واستكشافها أن نعمّق فهمنا للأنساق الاجتماعية والثقافية والسلوكية عند مختلف الشرائح والأجيال القطرية. كما يقتضي ما سبق، استخلاص حقيقة أن اللاندكروزر -وعلى هذا الوجه- لا يمكن أن يكون مجرّد شكل من أشكال البذخ والاستهلاك.