12 سبتمبر 2025
تسجيلفي تلكَ المقبرة (مقبرة العظماء) التي تقع في الحي اللاتيني بباريس، وتضم رُفات أشهر الجنرالات والفلاسفة والساسة والعلماء، دُفن إميل زولا، بعدما توفي بسبب اختناقهِ بأول أكسيد الكربون، عن عمرٍ ناهز الثانية والستين عاماً، ويقال إنهُ تمَّ اغتياله، كما ورد على لسان احد سكان باريس، وذلك بعد وفاتهِ بعشرات السنين. إميل زولا صاحب رسالة (أنا أتهم) والتي نُشرت في 13 يناير 1898م، على الصفحة الأولى لأشهر جريدة فرنسية في ذلك الوقت (لورور)، حيث كان زولا يشير بإصبع الاتهام إلى أعلى مراتب الجيش الفرنسي، بأن الجيش يُعرقلُ مسيرة العدالة ويُعادي السامية، باتهام رجل يهودي الأصل، بأنهُ جاسوس، والحقيقة على عكس ذلك، فقد كان اليهودي دريفوس بريئا، ولكنهُ تم الحكم على دريفوس بالسجن مدى الحياة في جزيرة الشيطان بغينيا. بتلك الرسالة التي نُشرت صبيحة ذلك اليوم، انقسم المجتمع الفرنسي بعدها إلى قسمين، بين رجعية الجيش والكنيسة، وبين التحرر المجتمعي، والتي كانت فرنسا تسير بخطىً ثابتة نحو ذلك التحرر. زولا الذي ولد في عام 1840م، بإحدى ضواحي باريس، كان بارعاً في الفن، قليل المال، ذا حظٍ متعثر، وملامحهُ بعيدةٌ كُل البُعد عن الجمال، كان أفطس الأنف، بلسانٍ ناقصٍ كما وصفه أحدهم، فقد كان لا يُحسن نطق (الزاي)، فكان زملائه في المدرسة يتندرون عليه بسؤالهم عن اسمه، فكان يُجيبهم بـ (ثولا) فيضحكون عليه، فيقوم بملاحقتهم، ومن ثم ضربهم. مات أبوه في سنٍ مبكرة، فقامت أمه بدور الأب، عمِلت ليل نهار، إلا أن زولا كان متخلفا ً في دراستهِ، منشغلاً في التأليف، فكان بليداً في عمله، ذكياً في قراءاته، حتى أصبح نابغة في مؤلفاته. كتب إميل زولا مسرحيات وقصصا قصيرة، والعديد من الروايات، كرواية الوحش الآدمي، نانا، تريزا، صفحة الحب، البيت المتداعي، اعتراف كلود، غموض مرسيليا، مادلين، فكانت الحياة لديه قائمة على لذتين: الكتابة والأكل، لدرجة أنه كان يذهب للسوق بنفسه كي يختار الطيور السمينة التي يريد أن يأكلها. يُعد زولا من أهم أسماء المدرسة الطبيعية في الأدب، فقد كان دقيقا في التحليل، رصينا في وصف البيئة الاجتماعية. يقول زولا واصفاً لنا أهمية الموهبة لدى المبدع: (ليس الفنان شيئا بدون الموهبة، ولكن لا تعني الموهبة أي شيء بدون العمل). وزولا الذي عاش في عصر التنوير أو عصر العقل كما يسميه البعض، كان زعيم الكتّاب الطبيعيين الفرنسيين، وكانت أطروحاته تعالج السلوك الإنساني على جميع مستوياته، فقد كانت نبرة النقد الاجتماعي في أطروحاته عالية. فالنقد الاجتماعي ركيزة هامة ولكنها مهملة في عالم الأدب، وبسبب سخطهم عليه قاموا بحرق جثته، ليتبقى رمادها، فالموجود في قبره هو فقط الرماد، رماد جثته، فقد قال عن الحقيقة: (إن أخرست الحقيقة ودفنتها تحت الأرض فسوف تَنْمو وتنبُت). إن صورة زولا وحظه المتعثر في الحياة ونبوغه في عالم الأدب، هي صورة حقيقية لذلك المبدع، الذي لا يجد أي ألفةٍ بينهُ وبين المجتمع الذي يعيش فيه، فنرى الكثير من عمالقة الفِكر، ينأون بأنفسهم عن ضجيج مجتمعاتهم، فهم في عزلة نفسية، قبل أن يكونوا في عزلة اجتماعية، وهذا الأمر لا يقتصر على جهابذة الأدب، بل إنه يمتد لكل جوانب الإبداع. إن شرارة الإبداع في الأصل، تتقد في الخلوات الطويلة، وكأن ذلك الإنسان المُبدع، يحاول أن يشعل شيئا في داخله، مرة بعد مرة، تدفعه هموم زمانه، إشكاليات حياته، ويسأل نفسه دائماً: هل أنا مع؟ أم .. هل أنا ضد؟، حينها تتقد الفكرة، وهذا بالضبط ما حصل لـ زولا، فمنذُ صغرهِ، وهناك شيء يخصهُ، لم تصل لهُ حتى أمه، ولا رب عمله، ولكنه أصر عليه، حتى حصل عليه، مات رب العمل، وماتت الأم، ومات إميل زولا، ولكنَّ اسمه بقي كرمز من رموز الأدب الفرنسي، فيكفيه فخراً، أن تكون رفاته في تلك المقبرة (مقبرة العظماء)، فهو في مسيرته، عظيم، دافع بشرف، ومات بشرف، وبقي في الذاكرة الفرنسية شريفا حتى يومنا هذا. إن الحديث عن الأدباء العظماء يطول ويطول، ولكن الذي دعاني للكتابة عن إميل زولا، هي رواية مصفرّة الورق، تقبع في مكتبتي منذ عقود، لم ألتفت لها أبداً، وكلما رتبت مكتبتي، وضعت تلك الرواية في الأمام، رغم أنني دائما ً أتخلص من الكتب القديمة، وفي المرة الأخيرة وأنا أرتب مكتبتي، وجدت رواية بعنوان (شهوة الحياة) لـ إميل زولا، مندسّة بين مئات الروايات، أخذتها وفتحتها، فوجدتها تنبض بالحياة، وكأنها كوب شاي قُدّم بعد يوم مُنهك. فتحت الصفحة الأولى، فقرأت أن زولا كان به خلل في اللسان، فأكملت الرواية، وبعدها قلت: (كان به نقصٌ في اللسان، فكتب ما يجبر به خواطرنا ويثري به عقولنا في عالم الأدب)، إنه الإبداع. دُفن زولا في سردابٍ يخص فيكتور هوغو، والذي كان زولا شغوفاً بكتاباته، هوغو الذي يقول: (الموت ليس شيئاً رهيبا ، الرهيب هو أن لا تموت).