12 سبتمبر 2025

تسجيل

فرنسا تحتفل بسقوط الباستيل لكن هل انهار مشروع التنوير؟!

16 يوليو 2023

من حق الشعب الفرنسي أن يحتفل بذكرى اقتحام سجن الباستيل الرهيب في 14 يوليو 1789، الذي يعتبر بداية انتصار الثورة الفرنسية، فهذا الاقتحام يشكل إنجازا حضاريا يستحق أن تفخر به فرنسا، حيث يشكل بداية فترة جديدة من تاريخ العالم، وبناء مشروع التنوير الأوروبي. كان ذلك السجن يصل ارتفاع أسواره إلى 24 مترا، ويبلغ سُمك الجدار 8 أمتار واستغرقت عملية بنائه 14 عاما؛ ليسجن فيه ملوك فرنسا كل من يجرؤ على التفكير أو التعبير، وقد بلغ عدد السجناء 6 آلاف في عهد الملك لويس الرابع عشر، كان من بينهم فولتير. في روايته «سقوط الباستيل» يصف ألكسندر ديماس هذا السجن بقوله: إن الباستيل كان رمزا للاستعباد، وليس سجنا خاصا بأعداء الملك، فلما آن للحرية أن تتنفس، ويشع نورها، كان من الطبيعي أن يكون الباستيل أول من يسربله ذلك النور.. أما الباقي فستتكفل به الثورة. يضيف ألكسندر ديماس على لسان أحد شخصيات الرواية: إن إنسانا زار الباستيل لا يخيفه شيء بعده !! لم تصمد الأسوار ! بالرغم من ارتفاع الأسوار وسمكها؛ فإنها لم تصمد أمام ثورة شعب قرر أن ينتزع حريته، وهرب حراس السجن الأقوياء المسلحون عندما رأوا جموع الشعب تتقدم، وتصر على اقتحام السجن. بذلك قدم الشعب الفرنسي البرهان على أن الشعوب تستطيع أن تحطم أسوار السجون مهما كان ارتفاعها؛ عندما تحطم أغلالها المعنوية، وتقهر خوفها، وتدرك أن الثورة تحمل أملا في الحياة، أما الخنوع والخضوع للطغيان فإنه يعني الموت كمدا وقهرا وذلا وفقرا ويأسا وإحباطا.لذلك من حق شعب فرنسا أن يحتفل بعيده القومي الذي حطم فيه أغلاله، واستجاب لنداء المفكرين والفلاسفة الذين أوضحوا له أن القوة ترتبط بالحرية والعدالة، وأنه من الطبيعي أن يعيش العبيد فقراء، لأنهم لم يدافعوا عن حقوقهم. لكن أين مشروع التنوير؟! عندما سقط الباستيل انطلق الفلاسفة والكتاب والصحفيون في فرنسا لصياغة مشروع التنوير الذي أدى لزيادة قوة أوروبا ودفعها لاستعمار معظم العالم، وشكل حالة انبهار طمست بصيرة الكثير من المفكرين في العالم العربي، فأرادوا السير خلف أوروبا، وتقليدها. لكن هل يمكن أن يفكر الفرنسيون وهم يحتفلون هذا العام بعيدهم القومي في أن المظاهرات التي قام بها شباب الضواحي في فرنسا احتجاجا على قتل الشاب نايل تشكل نهاية لعصر التنوير الأوروبي. تلك هي الحقيقة التي يجب أن يدركها الفرنسيون بعد أن تناسوا شعارات الثورة الفرنسية «الحرية والإخاء والمساواة»، فسمحوا لحكوماتهم باضطهاد المهاجرين، فانتشر الظلم، وتزايد شعور الناس باليأس، وهل يختلف شباب الضواحي عن أولئك الذين اقتحموا سجن الباستيل، بعد أن فرض عليهم الملك الضرائب الباهظة، في الوقت الذي رفض فيه النبلاء دفع الضرائب، وتخلوا عن الملك في أزمته الاقتصادية بعد أن استغلوا نفوذه في نهب ثروات البلاد. كم باستيل أنشأتها فرنسا؟!! الآن يجب أن يسأل الشعب الفرنسي نفسه وهو يحتفل بعيده القومي: ماذا تبقى من مشروع التنوير؟!، وكم «باستيل» أنشأتها فرنسا في الدول التي استعمرتها لتقهر الذين يطالبون بتحرير بلادهم، وتحقيق استقلالهم، وماذا ارتكبت فرنسا في الجزائر وأفريقيا من مذابح تشكل جرائم ضد الإنسانية؟!!. كما أن الشعب الفرنسي يجب أن يسأل حكوماته عن أسباب تأييدها للطغاة الذين أنشأوا سجونا أكثر قسوة من سجن الباستيل ليقهروا فيها الحالمين بالحرية والعدل.. وعلى ضوء تلك الإجابات يمكن أن يكتشف الشعب الفرنسي أن مشروع التنوير انهار عندما تعاملت فرنسا مع الشعوب باستكبار، ورفضت الاعتراف بالإخاء والمساواة، واعتبرت أن الديمقراطية للبيض فقط. لكن هل يدرك الشعب الفرنسي أن العنصرية والظلم وغرور القوة وقهر الشعوب أهم أسباب انهيار الدول؛ حتى إن كانت أسوارها أكثر ارتفاعا من الباستيل؟!.