10 سبتمبر 2025
تسجيلإنّ دراسة تاريخ الأندلس تثير في الأنفس مزيجاً خاماً من المشاعر أكبر مِنْ مزيج برنت، ويحرّك فيها أحاسيس متناقضة، تجمع بين الحسرة على جنة الفردوس المفقودة، والأمل بالصحوة الموعودة، حيث يكفي الاطّلاع على سيرة واحد مِن علمائها وقد كانوا بالآلاف، لتتكشّف أسباب تلك الحضارة التي لَم يسبقهم إليها أحد من العالمين. ومن أعلام تلك الحضارة التي تُشع بالنّضارة، وتمسح بالكُحل عيون النظارة عباس بن فرناس، والذي قال عنه ابن حيّان في كتابه المشهور "المُقتبس مِنْ أنباء الأندلس": (وهو الَّذي عمل بالأندلس "المنقانة" لمعرفة الأوقات، ورفعها إلى الأمير محمَّد حفيد الأمير الحَكَم، ونقش فيها أبياتاً مِنْ قوله شعراً: ألا إِنَّنِي لِلدِّين خير أداة إذا غاب عنكم وقت كلّ صلاة ولمٍ تُرَ شمسٌ بالنّهار ولَم تَبِن كواكب ليل حالك الظّلمات بِيُمْن أمير المسلمين محمَّد تجلّت عن الأوقات كلّ صلاة والمنقانة هي ساعة مائية دقّاقة، ذُكرت عند ابن حبير ب "المنجانة"، كما ذُكرت باسم "المنقانة" في مخطوطة الشريشي، وذكرها المقّري باسم "المنقالة"، ولا زل أهل المغرب ليوم النَّاس هذا يُسمّون السَّاعَة ب"المكانة"، كما يُسمّيها أهل تونس ب""المنكالة"، ورغم عملي لسنوات في مجال السّاعات، ودراستي لتاريخ آلات قياس الزّمن، وتطورّها بكافة أنواعها، عن طريق حضور عشرات الدّورات التّدريبية. كما لا يزال الأوروبيون لا يعترفون بفضل الحضارة الإسلامية في هذا المجال، ومجالات أخرى، في تزييف وتدليس واضحين للتّاريخ، مع أنَّ الأندلس كانت بمثابة سويسرا عصرها في مجال صناعة الساعات، علاوة على أنها كانت بمثابة وادي السيليكون في حجم ونوعية الابتكارات والاختراعات. وبالعودة إلى العالم الفذ ابن فرناس، فقد كان -كما مُعظم أعلام زمانه-(وكان فيلسوفاً حاذقاً، وشاعراً مفلقاً، مع علم التنجيم. وهو أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك بها كتاب العروض للخليل، وكان صاحب نيرنجات "الحيل العلمية"، كثير الاختراع والتوليد، واسع الحيل..) كما جاء في كتاب ابن حيّان. وما قصَّة المنقانة إلا دليل على مواهبه المتفتّقة، وأفكاره المتدفقّة، أساسها العلم الشّرعي، وغايتها خدمة الدِّين والنَّاس بشكل شرعي، وهكذا كان فهم علمائنا لدينهم، وهذا ما وقر في القلب وصدَّقه العمل.