29 أكتوبر 2025
تسجيلهذه رسالة مفتوحة إلي كل أبنائنا، أحدثكم الان بلسان كل أب يخفي في صدره من مشاعر ما سأظهر بعضها في تلك المقالة، الدافع لذلك حديث سمعته وآلمني تكراره من بعض الأبناء حين يتناسون فضل الآباء عليهم، وحنينهم وودهم وحبهم لأمر عارض أو تقصير لا يعرفون هو أبعاده.بني: أنت زينة الحياة الدنيا لي، هكذا قرر القرآن وقضى، هي إذن فطرة وضعت في صدر كل والد تجاه ولده (ذكرا كان أو أنثي) لا يريدان من وراء ذلك أجرا ولا ثمنا، بل غاية مرادهما من الله صلاح حال أولادهما، يتعبان لأجل رعايتهم، ويسهران لأجل راحتهم، ويتألمان إذا ما أصابهم عارض، ويتمنيان أن لو كان العارض فيهما وابنهما سالم، فإذا شب وكبر وأراد السفر؛ ضحكا في وجهه وقلبهما متألم، واجتهدا في طلبه وأرواحهما تنازع أجسادهما، وما أن يخرج الحبيب من البيت حتى يخلو كل منهما بنفسه والحزن يعتصر فؤاده والدمع لا يكاد يجف من عينه، ولسان حالهم ما قاله الطرسوسي قديما:لو كان يدري الابن أية غصة يتجرع الأبوان عند فراقهأمٌ تهييج بوجده حيرانة وأب يسح الدمع من آماقهيتجرعان لبينة غصص الردى ويبوح ما كتماه من أشواقهلرثى لأم سلّ من أحشائها وبكى لشيخ هام في آفاقهولبدل الخلق الأبي بعطفه وجزاهما بالعطف من أخلاقه.يسافر الولد ويغترب وتشغله الأيام والليالي عن والديه، وهما لا يملان التفكير فيهم والدعاء لهم، وإذا أردت بني أن تتعرف على الشوق الدفين في صدر والدك فاستمع إليه على لسان الشاعر العربي السوري عمر بهاء الدين الأميري لما ودع أولاده الثمانية ودخل بيته فلم يجدهم فبكى وقال:أين الضجيج العذب والشغب أين التدارس شابه اللعبأين الطفولة في توقدها أين الدمى في الأرض والكتبأين التشاكس دونما غرض أين التشاكي ماله سببأين التباكي والتضاحك في وقت معا والحزن والطربأين التسابق في مجاورتي شغفا إذا أكلوا وإن شربوايتزاحمون على مجالستي والقرب مني حيثما انقلبوايتوجهون بسوْق فطرتهم نحوى إذا رهبوا وإن رغبوافنشيدهم "بابا" إذا فرحوا ووعيدهم "بابا" إذا غضبواوهتافهم "بابا" إذا ابتعدوا ونحيبهم "بابا" إذا اقتربوابالأمس كانوا ملء منزلنا واليومَ، ويح اليومَ، قد ذهبواوكأنما الصمت الذي هبطت أثقاله في الدار إذ غربواإغفاءة المحموم هدأتها فيها يشيع الهم والتعبذهبوا، أجل ذهبوا، ومسكنهم في القلب، ما شطوا وما قربواإني أراهم أينما التفتَتْ نفسي وقد سكنوا وقد وثبواوأحس في خلدي تلاعبهم في الدار ليس ينالهم نصبُوبريق أعينهم إذا ظفروا ودموع حرقتهم إذا غلبوافي كل ركن منهم أثر وبكل زواية لهم صخبفي الباب قد كسروا مزالجه وعليه قد رسموا وقد كتبوافي الشطر من تفاحة قضموا في فضلة الماء التي سكبواإني أراهم حيثما اتجهت عيني كأسراب القطا سَرَبوادمعي الذي كتمته جلدا لما تباكوا عند ما ركبواحتى إذا ساروا وقد نزعوا من أضلعي قلبا بهم يجبألفيْيتُني كالطفل عاطفةً فإذا به كالغيث ينسكبقد يعجب العُذّال من رجل يبكي وإن لم أبكي فالعجبهيهات ما كل البكا خور إني وبي عزم الرجل أب.هذا غيض من فيض مما يخبئه صدر والدك لك، مما يخفيه خلف كلماته القوية وعباراته الحادة التي ما أراد منها إلا أن تكون رجلا يتحمل الشدائد ويواجه الصعاب.ودعني أسر لك أمرا أرجو أن تعييه تماما، بني لن تجد أحدا يحرص عليك ويتمني نجاتك مثل والديك، وإذا قدر الله وفاة الولد لن تجد من يذكره بالدعاء مثلهما، هل أتاك حديث عمر بن ذر الهمداني لما مات ولده ذر، وكان موته فجاءة، أتاه أهل بيته يبكونه فقال: ما لكم؟ إنا والله ما ظلمنا ولا قهرنا، ولا ذهب لنا بحق، ولا أخطئ بنا، ولا أريد غيرنا، وما لنا على الله معتب. فلما وضعه في قبره قال: رحمك الله يا بني، والله لقد كنت بي بارا، ولقد كنت عليك حدباً، وما بي إليك من وحشة، ولا لي إلى أحدٍ بعد الله فاقة، ولا ذهبت لنا بعز، ولا أبقيت علينا من ذل. ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك. يا ذر ماذا قيل لك وماذا قلت؟ ثم قال: اللهم إنك وعدتني الثواب بالصبر على ذر، اللهم فعلى ذر صلواتك ورحمتك، اللهم إني قد وهبت ما جعلت لي من أجر على ذر لذر صلة مني له، فلا تعرفه قبيحاً وتجاوز عنه فإنك أرحم الراحمين. اللهم وإني قد وهبت لذر إساءته إلي فهب له إساءته إليك، فإنك أجود مني وأكرم.وبعد ما سمعت وقرأت أسألك يا ولدي، هل تعلم أني أحبك؟