14 سبتمبر 2025
تسجيلإذا أثار شخص بهيئته وتصرفاته وبما يحمله، الريبة في مكان ما وفي زمان ما، يوصف بأنه أثار الشبهات من حول نفسه، وقد يعترضه رجل أمن ويقوده إلى قسم الشرطة للتحقيق، وإذا وجد معه ما يخالف، عرضه على النيابة التي تبحث مدى مخالفته للقانون، وترى فيه قرارها إما إحالته لمحكمة أو الإفراج عنه إن استطاع تفسير ما استدعى به الشبهات. تكاد تحيط الشبهات بما يجري في مصر، فالريبة صارت هي أول ما يدخل إلى النفس المصرية من أي فعل خاص أو عام، خاصة وأن معيار الاشتباه صار مطلقا وشخصيا لغياب القانون الذي يحتكم إليه المجتمع، والمجتمع يبدأ احتكامه وتقدير العلاقات داخلة بالعقد الاجتماعي التوافقي بين أطرافة، أي بالدستور. معركة الدستور التي بدأت في أعقاب 11 فبراير 2011 كانت أولى حالات الاشتباه، لماذا يفعل ذلك المجلس العسكري الذي يدير البلاد، وكيف ومصر تزخر برجال الفقه الدستوري، لجأ إلى لجنة أقل شبهة بها أنها تنتمي إلى جماعة الإخوان، وقاد البلاد إلى أولى خطوات الانقسام، ومازالت حالة الاشتباه تطارد أعضاءه رغم مضي 27 شهرا منذ ذلك التاريخ. وتمادت عوامل انقسام المجتمع بتعرضه لحملات الفتنة المتوالية، بدأت بفتنة الأجيال ثم الفتنة الطائفية ثم الفتنة في الدين ذاته، ولتنتهي بمحاولات هدم الدولة، وآخرها تجسد في الموقف من الأزهر والكاتدرائية، ثم بتسريب أخبار من مضمون أوراق لجنة تقصي الحقائق حول دور للجيش المصري في مواجهة شباب الثورة. من سرب الأوراق والمعلومات، وما مدى صحة هذه الوقائع؟ هي أسئلة مشروعة، ولكن حالة الريبة داخل المجتمع وضعتها ضمن سلسلة طويلة من علامات الاستفهام لا تجد ردا عليها، بل إن التعامل معها من وزير الدفاع كان مثيرا للدهشة أكثر منه باعثا على الراحة، فبدلا من أن يقرر اتخاذ إجراء عملي للبحث والتدقيق والتحقيق وإحالة الأمر للقضاء إن وجد ما يستدعي ذلك، وقف أمام الصحفيين يقسم بالله "أن الجيش لم يقتل ولم تصدر أوامر بالقتل". ولكن هناك قتل وسحل وتعذيب وهناك سرداب داخل المتحف المصري وهناك مشاهدات عينية وهناك شاشات تلفزيون صورت ونقلت، فلماذا القسم دون تحديد الجاني؟ لمصلحة من التستر؟ وتخرج مقولة "عدم تشويه الجيش" لتطارد محاولة الوصول للحقيقة، وكأن البحث عن الحقيقة تشويه، ونشر وثيقة في الصحافة المحلية والخارجية دون رد موضوعي ليست هي التشويه ذاته، وإذا قبل المصريون القسم بالله من وزير الدفاع، فهل يقبل العالم، ولماذا الدخول إلى دوائر الاشتباه، وفرض القداسة على الرد بالقسم؟ بقدر ما رفضنا هتاف "يسقط حكم العسكر" منذ لحظته الأولى، وكنا نراه محاولة لتعامل منحرف مع المؤسسة العسكرية، فإننا لا نستسيغ الاكتفاء بقسم مطلق دون تحقيق، فالله وحده أعلم بالنوايا ولا نملك قدرة التفتيش فيها. الريبة والشبهات غيوم في سماء مصر الآن، ودواعيها بلا حدود. وقائع ما جرى أمام الاتحادية يوم 5 ديسمبر مازالت دون التحقيق فيها وكشف مسؤولية جماعة الإخوان عما جرى يومها، من استدعى أعضاء الجماعة، وكيف جرى حشدهم وعلى عجالة، وتقسيمهم إلى مجموعات حتى أن أحد مسؤولي هذه المجموعات اتصل بأحد المستقيلين من الجماعة ليحدد له التوقيت ومكان التجمع، وهو ما كشف لنا حقيقة التنظيم للهجوم من قبل الجماعة بعيدا عن لغو القول. واقعة الإفراج بعفو رئاسي عن الحارس الخاص لنائب مرشد الجماعة، خيرت الشاطر، بعد حكم المحكمة على الحارس بالسجن لمدة سنة لحيازته سلاحا من دون ترخيص، وبلا مبرر، والحديث عن العفو الرئاسي عن مسجونين على قضايا جرائم (خاصة تجار مخدرات) ممن كانوا مع الرئيس نفسه في السجن الذي جرى تهريبه منه، أمر أثار الشبهات، ولم يجد أحد مبررا له. وواقعة محاكمات فتح السجون وخروج مرسي منها ومكالمته مع فضائية الجزيرة، والتي أفادت أن مكالمته لم يظهر لها رقم وكانت تحمل "رقما خاصا" أي غير مسموح بظهوره، وموقف النيابة من عدم تنفيذ قرار القاضي باستدعاء الشهود، ثم قراره الأخير باستدعاء مرسي للشهادة أمام المحكمة، أليس هذا كله مثيرا للريبة والشبهات؟ وواقعة ضباط الشرطة وعناصرها المختطفين والموجودين في قطاع غزة، هي حالة اشتباه تمس أبعادا وجهات كثيرة، ولكن أقسى ما تكشف عنه أمران، الأول أن مرسي عندما التقى زوجات المختطفين، عرض عليهن حقهن الشرعي في الطلاق من أزواجهن المخطوفين دون أن يرقى إلى مستوى الالتزام بإعادة أزواجهن!! وهو ما رفضته السيدات المصريات. وإذا وجد أحد مبررا لهذا، فالأمر الثاني لماذا يكبل القرار السياسي القدرة المصرية على تخليص المختطفين من سجنهم، وأعلم أن القدرة متوفرة مهما كان ثمنها، ولكن ما تخفيه الأنفس يفتح باب الريبة والاشتباه. ولعل مرسي كان صغيرا في السن ولا يذكر واقعة قامت بها المخابرات المصرية عندما جلبت عميلا للموساد من إيطاليا وكان بطل هذه العملية الطالب سمير الإسكندراني بالأكاديمية المصرية في إيطاليا وهو الفنان المعروف. ولعل مرسي لا يعلم قصة الحفار "كينتنج" الذي جلبته إسرائيل لاستخراج البترول من خليج السويس وقامت المخابرات المصرية والقوات البحرية بتدميره في 8 مارس 1970 قبالة ساحل العاج، وحرمت العدو من إعمال إرادته، وهؤلاء الرجال أبناء مدرسة مصرية لم تغلق أبوابها بعد وتستطيع أن تحقق أهدافها إن توافرت الإرادة السياسية. وما يزيد الريبة والشبهة أن ينقل رئيس حزب الوسط عن الرئيس قوله إن المخابرات المصرية أقامت تنظيما من 300 ألف بلطجي وإنها سلمت التنظيم للداخلية! فمن يثير الريبة ومن محل الاشتباه. وتصل الريبة إلى مجال الأمن القومي المصري، وله أدوات حمايته، ولا يمكن أن يتعارض أي تصريح أو أداء سياسي مع موجباته. الخطر يحيط بمصر، ولكن هل تستوعب السلطة في مصر بعد انتخابات الرئاسة أبعاد هذا الخطر حتى تكتسب شرعيتها بمواجهة هذه الأخطار. لقد تحولت مصر بعيدا عن مهامها تجاه حدودها وأمنها وحقوقها الاقتصادية وأمن مياه النيل، فصارت السلطة محل الاشتباه، لا تجدي التصريحات ولا محاولات المصالحة ولا التشريعات التي يجري صياغتها لحماية هذه السلطة، وليس المواطن والوطن. جلبة شديدة حول حلايب وشلاتين على الحدود المصرية السودانية، فبينما تفقد حكومة السودان ثلث السودان، تتصارع السلطة هناك وفي مصر حول ما إذا كانت حلايب وشلاتين موضع نقاش بينهما أم لا؟ هذا الجدل العقيم بينما السودان مهدد بضياع دارفور وشرق السودان في متوالية انفصال هي خطر على مصر، والتغاضي عن الدور الإسرائيلي هناك هو هروب من المسؤولية. إن نظام ما بعد يناير لا يجب أن يعتبر العلاقة مع السودان محل مناورة، بل هي مسألة أمن قومي، يترتب عليها التزامات كما الالتزام تجاه الأرض المصرية، حجم الريبة في هذا الغياب وأسبابه يضع السلطة ومرسي محل الاشتباه. والنظر إلى العلاقات العربية ــ العربية على أنها مجرد مصدر للإعانة أو التسول هو خطر يأخذ من مصر ولا يضيف إليها، ويكشف نهج سلطة التسول القائمة، ومثير للريبة، أن نظاما ينظر تحت قدميه لا يرى المستقبل ولا يستطيع التعامل معه. إن كافة الإخفاقات العربية في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وليبيا وتونس والسودان والخليج العربي تصب في الأمن القومي المصري أعباء إضافية وخطرا يتعاظم كلما طال زمن غياب الوعي به وعدم امتلاك إستراتيجية للتعامل تطمس ما بقي لمصر من وزن إقليمي لتتحول من معامل قوة إلى معامل ضعف للأمة. إن العلاقات الدولية والعلاقات في الإقليم إن لم تملك رؤية تحدد مصالح الوطن وانتماءه العربي هي مجرد وهم، وتحيل مصر إلى التبعية حتى يتحقق للسلطة القائمة مجرد الوجود. القضية الفلسطينية ليست مجرد مصالحة بين سلطة وحكومة مقالة، القضية الفلسطينية قضية الوجود العربي. والعلاقة مع إيران ليست صراع سنة وشيعة، ولا هي نقل حرفي لنظام الجمهورية الإسلامية، ولا يمكن الاعتماد على وعي النظام الإيراني بحقيقة مصر وشعبها، وأن يميز بين ما هو طارئ وما هو أصيل في الوجود المصري، ولكنه يتطلب قبول تحدي بناء العلاقات الناضجة وليست صريعة أهواء أفراد أو جماعات، وتتفق والرؤية الأمريكية الإسرائيلية تجاه المنطقة. لقد تحولت العلاقات الخارجية من علاقات الدولة المصرية والخارج إلى علاقات جماعة الإخوان والخارج، وغابت الخارجية المصرية، وحل محلها مسؤول العلاقات الخارجية للتنظيم الدولي. إن تجاوز مقتضيات الأمن والعدالة وأسس العلاقات الدولية والانتماء العربي ومقتضياته، هي أسباب الريبة في أهداف هذا النظام، ولا يمكن تجاوز حالة الاشتباه فيما يفعل. وقائع الريبة تشمل غير السلطة المعارضة التي تواجهها، فهي في حالة ترد متوال، لم يترك يقينا لدى الشعب أنها تعبر عنه مما أفقدها مصداقية ما تقول، والأمور عندها تتلون وتتوالي التنازلات من سيئ إلى أسوأ غير آبهة بما يجري نتيجة الانهيار هذا، وصارت والسلطة ومولاتها كأفرع للنظام السابق، وكان الهدف إسقاطه والقضاء على الفساد الذي أنتجه وتجاوز عجزه عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية فصار الحاضر بعد الثورة صورة مسخ للنظام الذي ثارت عليه. عندما يشتبه شرطي في شخص يقوده لمركز الشرطة ويطبق عليه القانون، وعندما يجري الاشتباه في السلطة والمعارضة فمن يكون الشرطي، خاصة وأن الشعب يرفض كلاهما.