12 سبتمبر 2025
تسجيلإني توسمت فيك الخير نافلةً والله يعلم أني صادق البصرِالفراسة والتوسم من صفات أهل الدين والنظر معا، وقد عرفها اهل الشأن بقولهم: هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية. وهي حقيقة ثابتة دلت على ذلك نصوص وتجارب. قال تعالي (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) وفي النص غنى عن الحديث "اتقوا فراسة المؤمن" لضعف إسناده وإن كان صحيح المعنى.وقد روي أن رجلاً مر بالسوق فنظر إلى امرأةٍ لا تحل له، فلما دخل على عثمان رضي الله عنه، قال "يدخل رجل علينا، وفي عينه أثر الزنا — وزنا العينين النظر — فقال له الرجل: أوحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. ولكن برهانٌ وفراسة"كما روي أن عمر سمع امرأة تنشد:فَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِعَذْبٍ مُبَرَّدٍ *** نُقَاخٍ فَتِلْكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ قَرَّتِوَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بَأَخْضَرَ آجِنٍ *** أُجَاجٍ وَلَوْلا خَشْيَةُ اللَّهِ فَرَّتِففطن عمر إلى شكواها، فأرسل إلى زوجها فاسْتَنْكهْهُ — شم رائحة فمه — فوجده أبخر — كريه الرائحة — فخيره بين خمسمائة درهم وجارية أو طلاقها، فطلقها الرجل.الفراسة تجمع بين شفافية النفس تدينا، ورجاحة النظر تعلما، فقد ذكر أبي حاتم الرازي في كتابه (آداب الشافعي ومناقبه) نقلا عن الشافعي قال "خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها وجمعتها، ثم لما حان انصرافي مررت على رجل في طريقي وهو محتبٍ بفناء داره — جالس على أَلْيَتَيه، وقد ضمَّ فَخِذَيه، وساقَيه، إلى بطنه بذراعيه — أزرق العينين ناتئ الجبهة سِنَاط — لا لحية له "وهذه الصفات مجتمعة عند أهل الفراسة تدل على الدناءة" فقلت له: هل من منزل؟ قال: نعم. فأنزلني، فرأيت أكرم رجل بعث إلي بعشاء وطيبٍ وعلفٍ لدابتي وفراشٍ ولحاف، فجعلت أتقلَّبُ الليل أجمعَ: ما أصنع بهذه الكتب؟، إذ رأيت هذا النعت في هذا الرجل، فرأيت أكرم رجل، فقلت:أرمي بهذه الكتب! فلما أصبحتُ قلتُ للغلام: أسرِج، فأسرَج. فركبت ومررتُ عليه، وقلت له: إذا قدمت مكة ومررت بذي طوى فسل عن منزل محمد بن إدريس الشافعي. فقال لي الرجل: أمولى لأبيك أنا؟!، قلت: لا.. قال: فهل كانت لك عندي نعمة؟!، قلت: لا .. قال: أين ما تكلفتُ لك البارحة؟!، قلت: وما هو؟! قال: اشتريتُ لك طعاماً بدرهمين، وإداماً بكذا، وعطراً بثلاثة دراهم، وعلفاً لدابتك بدرهمين، وكراءُ الفراش واللحاف درهمان. قلتُ: يا غلام أعطه، فهل بقي من شيء؟! قال: كراء المنزل، فإني وسَّعتُ عليك وضيَّقتُ على نفسي !! قال الشافعي: فغبطت نفسي بتلك الكتبِ.. فقلت له بعد ذلك: هل بقيَ من شيء؟ قال: امض أخزاك الله، فما رأيت قط شراً منك. فأعطاه الشافعي ما أراد وعاد فرحاً بأنه لم يكن ليخيب علمه الذي تعلمه.