12 سبتمبر 2025

تسجيل

نقطةٌ وراء نقطةٍ

15 سبتمبر 2020

قراءتنا لأي حدث سياسي، لا ينبغي أن تبدأ من لحظة ذروته، أي اللحظة التي يأخذ فيها شكلاً تنفيذياً ذا صورة إعلاميةٍ ضخمةٍ جداً، وإنما تبدأ بقراءة الأحداث التي سبقته ورافقته. ولذلك، علينا قراءة التطبيع الإماراتي مع الكيان الصهيوني في سياق أكبر من انتقاده لذاته، أو الانشغال في رثاء الذات، كما يفعل كثيرون. لأن هذا التطبيع مختلفٌ جذرياً عن سابقاته؛ كاتفاقيتي كامب ديڤيد ووادي عربة بين مصر والأردن من جهةٍ، والكيان الصهيوني من جهةٍ ثانية، كما أن مقدماته كلها تشير إلى تحوُّله لتهديدٍ مباشرٍ للهوية العربية الإسلامية، وللعقيدة الإسلامية في ثوابتها وركائزها. فقد مر اثنان وأربعون عاماً على اتفاقية كامب ديڤيد، وستة وعشرون عاماً على اتفاقية وادي عربة، لكنهما بقيتا في مستواهما الدبلوماسي، ولم تستطيعا النفاذ إلى الشعبين المصري والأردني. أما التطبيع الإماراتي، فإنه اتخذ صورةً هجوميةً شعبيةً علنيةً ضد الهوية والعقيدة، وكأن المجتمع نفسه يتفاعل مع التطبيع كحقيقةٍ واقعةٍ تُغنيه عن الانتماء لأمةٍ وعقيدةٍ. وقد يكون ذلك بسبب الكبت والقمع اللذين يجعلان من الصعب قيام مواطن إماراتي بإبداء رأي ضد التطبيع، حتى لو قال إنه لا يعارض المستوى الدبلوماسي له. نعود إلى السياقات التي رافقت التطبيع، وأولها هو حالة العداء الشديد للمسلمين، كما لاحظنا في تحريض وزير الخارجية الإماراتي لدول الغرب على المسلمين الذين فيها. ولكن هذا التحريض جاء، أيضاً، في سياق آخر هو السيطرة على وسائل الإعلام العربية، وشراء الذمم بالمال، مما جعل منها منابر للدعوات ضد الوجود الإسلامي في أوروبا، وضد الهوية العقائدية في البلاد الإسلامية نفسها. والمستغرب في تلك الحملات هو أن القائمين عليها لا يريدون أن يفهموا أنهم في مستوى حضاري متدنٍ، إنسانياً وسياسياً، لا يمكنه التأثير في مستوى مماثلٍ أرقى وأكثر كمالاً داخل الدول الأوروبية نفسها التي لا تنظر إلى مواطنيها المسلمين كغرباء، وإنما كمواطنين أصليين لهم الحق في التعبير عن هويتهم العقائدية، والدعوة للحصول على مزيد من حقوقهم الدينية، وفقاً للدساتير والقوانين المعمول بها. ومن السياقات، أن الإمارات ترعى وتدعم المجموعات ذات التوجهات الطائفية من غير المسلمين، والتي تنشط في الولايات المتحدة وأوروبا، وفي وسائل التواصل الاجتماعي في بعض بلادنا العربية، بحيث تحوَّل الشبح الطائفي إلى كيانٍ ماديّ لا يستطيع أحدٌ المسَّ به، كما نلاحظ في مصر التي لا يتحدث أحدٌ عن اضطهاد النظام الانقلابي للأغلبية المسلمة حتى في مساجدها التي يدمرها، وعن تودده المبالغ فيه لغير المسلمين الذين تُبنى كُنُسُهُم وكنائسُهُم، ويدافع الإعلام عن هويتهم الطائفية وكأن الهوية الإسلامية للأغلبية هي السبب في كل سوءٍ يلحق بهم. أما السياق الأشد سوءاً، والأعظم خطراً، فيتمثل في الطعن بالقرآن الكريم نفسه، بعدما تعوَّد كثيرون على الطعن في السنة النبوية. فنجد أن التركيز الأكبر للإعلام المصري المملوك للإمارات هو على مهاجمة جوانب من الإسلام تتعلق بفلسطين والقدس والأقصى المبارك، ليس من جانب سياسي، وإنما من جانب إنكار أي قُدسية حتى لو كانت القُدسية مرتكزةً على نصٍّ قطعيٍّ ثابتٍ في القرآن الكريم. فمثلاً، بدأ الروائي المصري: يوسف زيدان حملاته، منذ أربع سنوات، ضد صلاح الدين الأيوبي، وشتمه شتماً مُقذعاً، ثم انتقل إلى إنكار وجود المسجد الأقصى في القدس، وقال إنه في الطائف بالسعودية، وأخذ كثيرون من الأذناب الإعلامية لأبوظبي في ترديد هذه الأكذوبة التي تجعل التخلي عن الأقصى أمراً عادياً جداً. إلا أن مخاطر السكوت عنها تتجاوز ذلك بمراحل؛ لأنه يفتح الباب أمام ذوي الأهواء ليطعنوا في القرآن الكريم نفسه، ويحاولوا إيجاد تفسيرات تُرضي قيادة أبوظبي، بحيث يفقد قدسيته تماماً، وتصبح الهوية الإسلامية مجرد وهمٍ، والتمسك بثوابت الأمة وقضاياها أمراً معيباً. فهذا السياق هو الذي تحرص الإمارات على إبقائه قوياً ليصبح التفسير الأهوائي للقرآن الكريم هو الأساس في تشريع التطبيع. أما السياق الكوميدي المضحك في السياسة الإماراتية، فإنه يتمثل في تغريدات عبد الخالق عبد الله، مستشار ولي عهد أبوظبي، الذي يدَّعي أن التطبيع هو لصالح الفلسطينيين، ونحن نوافقه في الرأي لأننا ننتظر قيام حسين الجسمي بالغناء للكيان الصهيوني، والجسمي مشهور بتأثيرات أغانيه على الدول والشعوب. [email protected]