13 سبتمبر 2025

تسجيل

جبروتي

15 سبتمبر 2014

دخلا في الليل، في الخوف، في الظلال، في السعر الذي قد يجيء وفي الثعابين التي قد تهجر الشقوق. لم تكن ثمة كلمة متبادلة، نجَّام بالثوب حتى مستوى السرة والهمّ حتى مستوى القلب، وولد الحُور حزينٌ وخائف، وخطط لمستقبلٍ غامض في ريفه البعيد: قد أفتح متجري في «أم حراب»، قد تعفو عني أمي الغالية حين ألثم رأسها، قد يقبلونني مزارعاً أو حطّاباً أو غاسلاً للموتى، قد أتزوج، قد أنجب، وعندما وصلا بيت نجَّام كانت «قد أموت» هي الفكرة الأخيرة التي تولّدت في ذهن ولد الحُور. قد أموت... نعم قد أموت. كانت المرة الثانية التي يدخل فيها بيت نجَّام برغم لقاءات المغص بينهما والتي كانت تتم غالباً في الطريق. يكرهه لأنه سلب الرزينة من عينه ومن نطاق مراقبته، ويحبه لأنه أبقاها في صدر أمٍّ لا في صدر رجلٍ يشتهي.. تناقشا كثيراً بالألسن، وتطاولا على بعضهما، وسبّا قبائل البيقو والتنجر والمساليط والبراقيد سباباً بلا حصر، لكن المحصلة واحدة: الرزينة عند نجَّام، والرزينة في قلب ولد الحُور، ولابدّ من تفاهم.. فكرته عن الخصيان كانت مشوشة، وكانت هي نفسها فكرة الخصيان عن أولاد الحُور: الشياطين التي تتبع، الخبث والوسواس، ولعنة الدنيا والآخرة.كان بيت نجَّام مرتباً: المقعد يبدو مقعداً والسرير سريراً وأدوات الطبخ لا تقل اكتمالاً عن أي أدوات طبخ في مطبخ نسائي. يقول إنه تخصص في حساء الطيور الجارحة، ويقول مطبخه إنه تخصّص في كل شيء.– جئت به يا رائعة.مجدداً يا رائعة، ومجدداً ارتعاش الغرور في الجسد الهائم. أين كنت في طفولتي يا نجَّام؟ أين كنت في صباي؟ ولماذا يا رائعة بعد أن تمزقت الرائعة؟– نعم يا رزينة.لم يقل «يا رائعة»، جبروتي ليس أنيقاً في الكلام ولا بارعا في المواساة كالخصي نجَّام، ولا تهمه من كل تلك الدراما المتشابكة، منذ أن اختفى أخوها، إلا رعشة الحب. حسناً، أحببتني، وصنعت العطور من أجلي، وهجرت الريف لتظل قربي، وتقدمت للزواج مني، ووضعتك في مهلةٍ قاسية، وأنت تنتظر، وأنا لا أحبك، وأنا لم أفكّر، وأنت مسكين... دمعتي ستنحدر!– جبروتي، هل ما زلت تنتظر ردّي؟– نعم أنتظر.بالمسكنة نفسها، بالإذلال الذي ما استردّ أبداً كرامة، شمّاعة الظروف، شمّاعة الفتاة الجريحة، اليتيمة والتائهة والتي تنتظر أخاً في ذمّة الرعاع.– أنا آسفة يا جبروتي، لن أتزوجك ولن أتزوج أي رجلٍ آخر.– لماذا؟ لماذا يا رزينة؟ لماذا يا رائعة؟«يا رائعة» من دون قصد. في لحظة الصدمة يتكسّر اللسان وينشف الريق، وبرغم توقعه للنهاية، وبرغم أنه حزم أغراضه الهزيلة بالفعل وصفّى تجارة العطر وراسل أهله في الريف يبشّرهم باقتراب العودة، وبرغم أنه باع سراويل غالية كانت مدّخرة للعرس واعتذر لمدعوين يعرفهم ووضعهم داخل مهلة التفكير نفسها، وبرغم أنّ الردّ جاءه وأنّ الريف هو الريف ولا يزال فاتحاً ذراعيه، إلاّ أنه صُدم. تراجع إلى الوراء... تقدّم إلى الأمام... بكى بأبيض العين وأسودها والرموش كلها، ولم ينصرف لأن قدميه كانتا مشلولتين، ولم يبقَ لأن البقاء ذلّ، والتصق بباب الخروج ولم يخرج.