12 سبتمبر 2025

تسجيل

التقرير

15 أغسطس 2016

أشعث أغبر، وبصوت متهدج محمل بثقل الهزيمة وطعم الدم، هكذا وصل رسول سمرقند إلى دمشق عاصمة الخلافة، دامع العينين أخذ يسأل عن دار الحاكم، حتى وصل إلى بناء يبدو مميزا عما حوله، لكن لا تبدو عليه فخامة دواوين الملوك. وجد رجلا بثياب متسخة بالطين يحمل لبنة، يرمم بها جزءا متهدما من السور وخلفه امرأة تعاونه بدت وكأنها زوجته، هز الرسول رأسه ثم قال لنفسه: كلا! ، أظنني وصلت؟! ، التفت حوله، تحدث مع أحد المارة بالقرب من المكان فأكد له بأنه في حضرة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز. من بعيد كان البريطاني السير تشيلكوت يراقب ما يجري، هو الآخر كان مرتبكا، وصل إلى هنا بشكل مجنون بعد ليلة صاخبة قضاها في مختبر العالم البريطاني ستيفن هوكنغ صاحب نظرية الثقوب الدودية للسفر عبر الزمن! اقترب رسول سمرقند من عمر بن عبد العزيز، هتف بصوت مرتجف: أنا رسول سمرقند يا أمير المؤمنين؟ تألق وجه الخليفة وابتسم قائلا: مرحبا بك. ومن أرسلك يا أخي؟ أجاب الرسول: كهنة المدينة سيدي! فقال الخليفة: وما تريدون؟ وهنا بدأ الرسول يروي حكايته. فأخبره أن قائده قتيبة بن مسلم الباهلي اقتحم سمرقند عنوة دون إنذار، ولم يخير أهل المدينة كعادة الجيوش الإسلامية بين الإسلام والجزية أو الحرب، ولم يمهلهم أياما لذلك كما يجب أن يكون، وختم قصته بسؤال طرحه على أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز: هل يجوز ذلك في شرعكم ودينكم أيها الأمير؟ أطرق الخليفة قليلا ثم رفع رأسه وقال: لا يجوز ذلك في شرعنا، ولكن يبقى أن نتثبت من صحة ما تقول أولا. طلب من كاتبه أن يكتب على لسانه: من عبدالله عمر بن عبدالعزيز إلى عامله على سمرقند أن أنصب قاضيا لينظر في شكاية أهل المدينة، وأن يكون الحكم للقاضي دون تدخل أو ضغط. الذي أصابه الذهول هنا لم يكن رسول سمرقند فهو لأجل شيء مثل هذا قد جاء، من كان يمثل دور تمثال من الذهول الخام هو البريطاني السير تشيلكوت، حيث تجمد في مكانه ذاهلا، مصدوما، واصطكت ركبتاه، وارتجف، وقال لنفسه: لو أن حاكما أوروبيا قروسطيا معاصرا لعمر بن عبدالعزيز جاءه مثل هذا الرسول، لضرب عنقه دون إمهال. ولو أن توني بلير الذي احتل العراق تحت ذرائع "مفبركة" غير حقيقية، لو جاءه مثل هذا، لوضعه في غوانتانامو دون إمهال، كاد تشيلكوت يجن فعلا، وهو يواصل مطاردته لرسول سمرقند. قدم رسول سمرقند كتاب عمر بن عبدالعزيز إلى الوالي، الذي غضب قليلا وتوتر، إلا أنه في النهاية عين قاضيا للنظر في القضية. قال القاضي: ما دعواكم يا أهل سمرقند؟ قال الرسول: لقد احتلت قوات قتيبة بن مسلم ديارنا دون إنذار في مخالفة واضحة لشرعكم، ما يدريكم لعلنا كنا قبلنا بالإسلام أو دفع الجزية! التفت القاضي لقائد جيش المسلمين: ما ردكم على هذه الدعوى؟ ارتبك القائد وتلعثم ثم قال: أيها القاضي إن سمرقند جنة الله على الأرض، وأهلها على الكفر، بفتحنا للمدينة سيدخلها نور الإيمان، وكما... قاطعه القاضي قائلا: سأعيد السؤال. هل خيرتم أهل المدينة بين الإسلام والجزية والحرب. وأمهلتموهم 3 أيام؟ قال القائد بصوت مرتجف: أنت تعلم أن المدينة قوية الأسوار وحصونها منيعة ولو أننا أمهلناهم وخيرناهم، كانوا سيستعدون لملاقاتنا ويتحصنون بشكل يجعل المدينة عصية على قواتنا، وكنا سنعجز عن فتحها، كما أن خسائرنا كانت ستزداد. تردد القائد قليلا ثم قال: ولا تنس أن الغنائم في المدينة ستدعم ميزانية الدولة! صرخ القاضي وقال: الله أرسلنا هداة للناس، لنخرجهم من الظلمات للنور، لا محتلين طغاة ننهب المدن، وعندما شرع ربنا الجهاد وضع له قواعد وشروطا واضحة. أخذ القاضي نفسا طويلا ثم قال: نظرا لعدم التزام قتيبة بن مسلم الباهلي بتعاليم الإسلام فيما يخص الجهاد في سبيل الله، ولم يخير أهل سمرقند بين الإسلام والجزية والحرب، ولم يمهلهم لذلك، وهجم عليهم على حين غرة، فإن كل ما تلي ذلك باطل. وبدأ القاضي بتلاوة ما يمكن اعتباره أعظم حكم قضائي، قائلا: لذلك فقد حكمنا على القوات الإسلامية بالخروج من المدينة، وعودة الأحوال إلى ما كانت عليه قبل الفتح، ومن ثم لو أراد المسلمون فتح المدينة من جديد، يمكنهم ذلك شرط اتباع القواعد المعتبرة في الجهاد! كاد قلب السير تشيلكوت أن يقف، ذهولا، وتعجبا، بينما تعالت أصوات أهل سمرقند بالهتاف فرحا وانتصارا، والعجيب أن من بين هذه الهتافات وجدت بعض الحناجر السمرقندية التي كانت تهتف الله أكبر، لم يمض القليل من الوقت إلا وكان الجيش الإسلامي خارج أسوار سمرقند. وهنا لم ينتظر أهل سمرقند أن يخيرهم المسلمون، بل دخلوا في دين الله أفواجا، فما رءوا قبل اليوم دينا مثل هذا، ينصر المظلوم حتى لو كان كافرا، ويقتص من الظالم حتى لو كان مسلما، فدخل المسلمون المدينة من جديد ودون حرب هذه المرة. قبيل غروب الشمس بقليل تسلل رجل ملثم إلى حي مهجور على أطراف المدينة، كان باستمرار يتطلع إلى شاشة هاتفه الذكي نوت 5 (هذه دعاية ببلاش). حتى وصل لمكان حددته له خريطة جوجل فتنفس الصعداء، ثوان قليلة التمعت بعدها عدد من الشرارات في الفراغ على ارتفاع متر تقريبا ثم فُتح ممر غريب، يقود إلى اللامكان، بسرعة كبيرة قفز السير تشيلكوت في الفتحة وعبر الفراغ فوجد نفسه وقد سقط في مرآب منزله. نهض تشيلكوت ونفض قليلا من الغبار عن ثيابه ثم توجه إلى مكتبه رأسا وبدأ العمل على كمبيوتره المكتبي، هذه المرة كانت أفكاره أسرع بكثير من قدرته على الكتابة، استغرق في الكتابة عدة أيام، بشكل متواصل، لم يكن يتوقف إلا للذهاب للحمام أو تناول وجبة خفيفة، حتى انتهى من إعداد التقرير صباح الاثنين، ويوم الثلاثاء وصل التقرير لرئيس الوزراء البريطاني. التقطت رئيس الوزراء البريطاني التي تولت منصبها حديثا التقرير وأخذت تقرؤه باهتمام، كان التقرير إدانة واضحة لتوني بلير على غزوه العراق دون مبرر قانوني أو أخلاقي، فامتعضت، وزفرت بحدة وهي تقول: "شكلها" بريطانيا موعودة إما برئيس وزراء "متعوس" يحتل دولا كاملة دون مبرر، أو بآخر "خيب الرجا" يخرجنا من الاتحاد الأوروبي. فجأة وجدت أمامها في منتصف الغرفة رجلا يرتدي ثيابا تاريخية أنيقة، تذكرت أنها رأت مثله في أحد المسلسلات التاريخية العربية، بعد هذه الملاحظة وجدت أنه من المنطقي أن تخاف وتشعر بالرعب، فالرجل ظهر من العدم، أخذت تصرخ وتنادي الأمن، ولكن ما من مجيب. ابتسم الرجل ذو الشعر الأبيض، والعمامة الزرقاء، التي بدت متناسقة إلى حد كبير مع جلبابه السماوي وعباءته الرمادية، ثم قال: أنا هارون الرشيد، الذي خاطبت السحب يوما، قائلا أمطري حيث شئت فإن خراجك سوف يأتيني. متلعثمة قالت: ماذا تريد؟ فأجاب بهدوء يأتي من أعماق التاريخ: أن تأخذ العدالة مجراها! فتحت فمها ببلاهة وقالت: أي عدالة؟! ابتسم هارون الرشيد وقال: طالما ثبت الخطأ في احتلالكم للعراق، فالواجب الآن أن يعاقب من أمر باحتلال العراق، ويتم تعويض الشعب العراقي ملياراته ودماءه التي ذهبت هدرا، وتدمروا الإرهاب، وتعيدوا شيطان الطائفية الحقير إلى قمقمه، وإعادة الوئام والسلام للمنطقة بأسرها، هل تستطيعون أن تفعلوا ما فعل عمر بن عبدالعزيز!! فأجابت سعادة رئيس الوزراء: لقد أنصفكم تقرير تشيلكوت وذلك يكفيكم..احمدوا الرب، ولو كانت رئيسة الوزراء سليطة اللسان أو "رداحة" لقالت بالفم الملآن: انقع تقريرك بماء دافئ واشرب المنقوع، وذلك جيد لعلاج القولون! وهنا اختفى هارون الرشيد، بدا وكأنه ذاب، وشعرت رئيس الوزراء بالبرد، وبات واضحا أن العدالة في الغرب انتقائية، أو تخضع لصراعات سياسية، ولكل إنسان قيمته، وليس العراقي، أو العربي، والمسلم بشكل عام، مرتفع الثمن!