13 سبتمبر 2025

تسجيل

تجارب

15 يوليو 2013

وقفت في ركن شبه معتم في الصالة الخارجية لمبنى نادي الرفاق الاجتماعي، أدخن سيجارتي ببطء، وأحاور ذكرياتي الآسيوية بتوتر، متمنيا أن تنطق بجديد أسرع لتدوينه حالما أعود إلى بيتي.  كانت الصالة على عكس القاعة الداخلية، حيث محاضرة الطب الانعكاسي، محشوة بشدة بالرواد، ثمة أشخاص يلعبون الدومينو في حماس ظاهر، أشخاص يثرثرون بحدة عن الوضع السياسي الراهن، ومباريات كرة القدم المحلية، ونفر قليل، تحلقوا حول طاولة قديمة للعب كرة الطاولة، موضوعة في الركن المقابل، ينتظرون دورهم. كانت صالة عادية، في ناد عادي، لن تلفت النظر كثيرا، ولن يلفت وجود كاتب روائي حتى لو كان لامعا، أنظار شاغليها، ذلك بباسطة أنهم بعيدون جدا عن طرق القراءة، لكن غير العادي، حدث في تلك اللحظة، فقد شاهدت بغتة عاشق رنيم المضطرب، يبزغ من إحدى الغرف الداخلية، كان يرتدي ذات ملابسه البلدية القحة، وحذاءه المصنوع من جلد الماعز، ويتجه نحوي بسرعة، وفي يده اليمنى نسخة من روايتي أمنيات الجوع، وفي اليسرى ما خلته لهلعي، مدية.  ألقيت سيجارتي على الأرض بسرعة، وأسرعت نحو باب الخروج، وأحس برغبة مؤلمة في الصياح، ومناداة أحد أولئك المشغولين باللعب، لحمايتي إن كنت أواجه هجوما من مهووس، ورعت في ذهني للحظة، عشرات المواقف والذكريات، ما أنجزته في حياتي، وما لم أنجزه، ما كان سعيدا حقا، وما كان مؤلما، وفكرت في لعنة الكتابة وأنها أكبر لعنة يصاب بها مدرس للرياضيات، كان يمكن أن يكون الآن قد أصبح وزيرا للتعليم، أو أقلها مستشارا للشؤون التعليمية.  لقد كانت كتابتي في مجملها خليطا من الواقع والخيال، شيء أستوحيه من محيطي، وشيء أخترعه، وحتى ما أستوحيه لا أكتبه كما هو، ولكن أعدله بحيث لا يجرح أحدا، ولا يعطي الواقع أي فرصة ليدعي امتلاكه، وقد دخل إليها عبر هذا الدرب أصدقاء وأهل وجيران، ومعارف، وناشطون في الدنيا، وخامدون، ولم يقل أحد من قبل إن تلك الشخصية هي أنا، ولا ردد صاحب موقف استلفته، بأن هذا موقفه، وسيقتلني من أجل كتابتي له. حتى المدن لا أكتب أسماءها من أجل أن تأتي مدينة ذات يوم، وتدعي أنني رسمتها، وشارع بيتي الذي أسكنه، وصفت فورانه في فقرات كثيرة، ورغم ذلك، لن يحدث أن يعاتبني ذات يوم.  حين وقف الرجل أمامي، كنت لدهشتي الشديدة، قد قرأت في ذهني أمنيات الجوع كلها، مررت بشخوصها وحواريها وأزقتها، وشوارعها المسفلتة، والوعرة. مررت بتنفسها وغياب تنفسها، بما اعتبرته مشرقا فيها، وما اعتبرته رديئا بلا طعم. وخرجت منها بأن لا شيء داخلها يشبه هذا الرجل، ليلاحقني بها هكذا. الرواية في يده اليمنى، وما خلته مدية، كان وهما، لأن يده اليسرى كانت خالية.