15 سبتمبر 2025
تسجيلجلست بجوار (خميلة جماري) في بيت والدها الأنيق، في حي (كاهير) الراقي، حيث أقيم وتقيم هي، ويقيم معظم أثرياء المدينة ووجهائها. وقد اكتمل الشقاء لاستقبال المتَّقي وأتباعه، ودحرهم الكبير، الذي أكده قادة الجيش بعد أن رتقوا صقورهم ونجومهم على الأكتاف، وأزالوا رائحة العتة من ثيابهم، ولم أستطع تذوق ذلك الطعم أبداً.كانت ساحة المجد قد حفرت كلها، وجهزت كخنادق آمنة لاحتواء المأزومين والعاجزين والذين قد يجرحون في الحرب أو يصابون بالهيستيريا، الخنادق عند مدخلي المدينة المحتملين، مملوءة بالحطب والقش وثقاب إشعال النار، وعدد من الخطط والمناورات التي استخرجت من كتاب (فاسكو) العسكري، الذي وصفه الحاكم بالسخف، قد وزعت، ورصت طوابير من المجندين الذين حصدوا من الأحياء، ودربوا على قرقعة السيوف، ووخز الحراب، واستخدام البنادق الصدئة، على عجالة، أمام تلك الخنادق.. لم تكن ثمة أخبار، أي أخبار من حكومة العاصمة البعيدة، ولا سمعنا بجيش جرار ولا حتى حطام جيش، في طريقه إلى نصرتنا، وأرقم وجاويد، رسولا الهلاك، التعسان.. غادرا بالكفن متقن التفصيل، ولا يعرف أحد إن كانا ما يزالان رسولين قد يعودان بجمر جديد، أم جثتين مهملتين في عراء التيه بلا غطاء ولا قبر.كنا في مرجل يغلي، يغلي ويغلي، ولا أحد يملك القدرة على إطفائه. كان الغلاء على أشده، الجوع على أشده، العري على أشده، ولم تكن التظلمات الشعبية تأتي همساً كما كان في السابق، ولكن ألفاظاً نابية نسمعها في ترف، وحجارة تلقى على مجلس المدينة بلا توقف، ونبال صيد للعصافير حولها الصبية الجائعون إلى نبال رجم ممتلئة بالمأساة، ولأول مرة ظهرت في المدينة بوادر مرض (التخمة الكاذبة)، الذي يصيب المصارين بالهلع، فتضخ غازاتها وتنتفخ حتى الموت.كان الحاكم دامير قد سعى وفي وقت متأخر جداً، إلى محاولة سحب عبارة (ما ترونه مناسباً) من الأسواق، وآذان تجار لم يحفظوها فقط، لكنهم ملأوها بالحطب، وحولوها إلى موقد، واستبدالها بعبارة أكثر ملاءمة، بعد أن اكتشف مرارة طعمها الذي حرمه شخصياً من لحوم الظباء المجففة التي يعشقها، لكن التجار كانوا حذرين، وملاعين، ولهم قراءات لا تتبع الواقع تماماً، ولكنَّها تخترع واقعها، كانوا يرون في الحرب القادمة برغم كل الدلائل، وأحبار الذكرى والتاريخ التي توثق باستمرار، مجرد كذبة كبيرة، وميدان ثراء جديد، تعود بعده الحياة إلى مجراها الطبيعي. اجتمعنا بتجار المحاصيل، وتجار الكساء، والذين يبيعون الشمع وصابون الغسيل، رفعنا أصواتنا ورفعوها، مددنا الأيدي ومدوها، اشتبكنا واشتبكوا، وخرجنا بنتيجة أن الذي يستطيع أن يأكل ويلبس، ويضيء ليله ويستحم، هو الذي يستحق أن يبقى مواطناً بعد الحرب... وكانت نتيجة بشعة، لخصها صهري (جماري)، نيابة عن زملائه من التجار. وألقى بها حارة وحارقة، ليس في وجوهنا نحن مسؤولي الحكومة فقط، ولكن في وجه المدينة كلها.