16 سبتمبر 2025
تسجيليراد بالشَّوق: نزوعُ النَّفْس إِلى شيء ما من كثرة تَعَلُّقها به، وهو نار تحرق القلب، وعذاب يتردد في النفس، وقلق وتوتر، وضيق وحزن، وخوف ووجل، قد تصحبه سعادة لكنها طارئة، وراحة لكنها راحلة، وأنسا لكنه مستوحش، وألفة لكنها قصيرة، وهكذا شوق العبد لكل متاع الحياة لا يخلو من كدر فما من لقاء إلا وفي ذيله فراق، غير أن هناك شوقا لا يحمل صاحبه على التعب ولا النصَب ولا الحزن ولا الضيق، بل هو شوق يبدد الله به الأحزان، ويعين العبد على التغلب على الصعاب، شوق يذيب المهج فلا تتألم من قسوة، ولا تجزع من شدة، بل تحيل الهم إلى أجر، والبعد إلي قرب، والموت إلى حياة يلتقى في ظلالها المحبون. إنه شوق من فقده فقد المعين له عند البلاء، والمصبر له على الأحزان، فيضحى والذكرى فالقة كبده، وكأنه يردد قول الخنساء حين كانت ترثي أخويها :يُؤرّقُني التّذَكّرُ حينَ أُمْسي ******** فأُصْبحُ قد بُليتُ بفرْطِ نُكْسِعلى صَخْرٍ، وأيُّ فتًى كصَخْرٍ********* ليَوْمِ كَريهَة ٍ وطِعانِ حِلْسِوللخصمِ الالدِّ اذا تعدَّى ********* ليأخُذَ حَقّ مَظْلُومٍ بقِنسِفلمْ ارَ مثلهُ رزءًا لجنٍ ******** ولم أرَ مِثْلَهُ رُزْءاً لإنْسِأشدَّ على صروفِ الدَّهرِ أيداً ***** وأفْصَلَ في الخُطوبِ بغَيرِ لَبسِوضيفٍ طارقٍ أو مستجيرٍ ******* يروَّعُ قلبهُ منْ كلِّ جرسِيُذَكّرُني طُلُوعُ الشمسِ صَخراً ****** وأذكرُهُ لكلّ غُروبِ شَمْسِولكنْ لا أزالُ أرى عجولاً ******** وباكيَة ً تَنوحُ ليَوْمِ نَحْسِألا يا صخر لا أنساك حتى ***** أفارق مهجتي ويشق رمسي هذه الخنساء وقد فقدت ساعتها الشوق الحامي من تلك الآلام، والمبدل لهذه الأوجاع والأحزان، إنه الشوق إلى الله عز وجل، هو السحر الحلال، واللذة التي بفقدها تحيل العذب إلى عذاب، وهنا يفهم كلام الحسن -رحمه الله تعالى-: "والذي نفسي بيده ما أصبح في هذه القرية من مؤمن إلا وقد أصبح مهموماً محزونًا، ففروا إلى ربكم وافزعوا إليه؛ فإنه ليس لمؤمن راحة دون لقائه". ذلك أن شغله بالله أنساه كل مخلوق، وصرفه عن كل الكروب، كما قال أحدهم ما عنك يشغلني مالٌ ولا ولد نسيتُ باسمكَ ذكرَ المالِ والولدِ فلو سفكتَ دمي في الترب لانكتبت به حروفك لم تنقص ولم تزدِإنه سفر بلا تعب، سفر القلوب لا القوالب، سفر القلوب في طلب المحبوب، ولا عجب أن كان الشوق إلى الله دعاء الحبيب صلى الله عليه وسلم "اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْينِي مَا عَلِمْتَ الْحَياةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَأَسْأَلَكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غيرِ ضَرَّاءٍ مُضِّرَةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإيِمَانِ، وَاجْعَلنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ".وقد ازدان الدعاء واقترن بالعمل وظهر بجلاء في رحيل نبينا عن الحياة، فعن أبي سعيد الخدري أن َ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ". شوقا إلى الله وحبا له، والعجب أنه شوق متبادل وهذا من أعجب الأمور وأسعدها عند الصالحين، فالإنسان في حياته لا يعجب من شوق الفقير إلى الغني، وشوق العبد إلى سيده وولي نعمته، لكن العجب أن يشتاق ملك الملوك إلى هذا العبد الفقير، ذكر في أخبار داود عليه - السلام-: "إن الله تعالى قال: يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني، وجليس لمن جالسني، ومؤنس لمن أنس بذكري، وصاحب لمن صاحبني، ومختار لمن اختارني، ومطيع لمن أطاعني، ما أحبني عبد أعلم ذلك يقيناً من قلبه؛ إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي وأنسوا بي أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم، فإني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي وموسى نجيي ومحمد صفيي، وخلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعمتها بجلالي".وروي عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه قال لكعب الأحبار: "أخبرني عن أخص آية - يعني في التوراة- فقال: يقول الله تعالى: طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوقاً". قال: ومكتوب إلى جانبها: "من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني". فقال أبو الدرداء: "أشهد إني لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا".وقد روي أن الله أوحى إلى داود: "يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم؛ لماتوا شوقاً إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي. يا داود هذه إرادتي في المدبرين فكيف إرادتي في المقبلين علي، يا داود أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني، وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني، وأجلّ ما يكون عندي إذا رجع إلي".وهذا ما أوجزه الرسول صلى الله عليه وسلم بكلمات قليلة حين قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" حتى المذنب يشتاق إلى ربه، ويحسن الظن فيه، ويقول بلسان الحالأيا من ليس لي منه مجير ***** بعفوك من عذابك أستجير أنا العبد المقر بكلّ ذنب ***** وأنت السيّد المولى الغفور فإن عذّبتني فبسوء فعلي ***** وإن تغفر فأنت به جدير أفر إليك منك وأين إلاّ ***** إليك يفرّ منك المستجيروتستشعر هذا المعنى العظيم في كلام السلف الصالح : أحدهم يقول: ((مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟: قال محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته )) وآخر يقول: ((حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت، والعيش الهني الحياة مع الله تعالى لا غير)) اللهم آنس وحشتنا بالشوق إليك، وأعنا على طاعتك، ويسر لنا أسباب الطاعة حتى نكون في محراب الحياة من الأولياء، وفي ساعات الخلوات من الأصفياء، ومتعنا يا مولانا بمحبتك، ويسر لنا الطاعات حتى نشتاق إليها ونحن فيها، وارحم موتانا وموتى المسلمين وعاملهم بفضلك فأنت الكريم.