15 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ بيت ميسون بنت بحدل، الذي تخفق الأرياح فيه، كانت مفردة (بيت) تتسلّل إلى الشعر، بغض النظر عن مصطلح الوحدة الشعرية الأصغر التي تسمّى البيت.. فقد كان البيت حاضراً في الوحدات التعبيرية الأولى في الرسم السامي للحروف، الذي اختار رسم البيت لتمثله حرف الباء ثاني حروف الهجاء في معظم أبجديات العالم، وتطلق على الكعبة الشريفة في أكثر من وصف كالبيت العتيق وبيت الله الحرام، كما جاء في قوله تعالى: "إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة". كان البيت مرادفاً لكلمة (أسرة) أصغر وحدة ديمغرافية في تكوين مجتمع، وحلّت محلّها في التوصيفات الجديدة للبنى الديمغرافية الصغيرة في المدن العربية بدل عائلة أو أسرة أو قبيلة، ولكن البيت المقصود لذاته لم يرد بكثرة خلا مرات قليلة كما تغنّى الأحوص ببيت عاتكة أو بحمولة رمزية واضحة، كبيت الشعر الأثير: "العلم يرفع بيتاً لا عماد له// والجهل يهدم بيت العزّ والكرم".. وربما تعثر القارئ بالبيت الحقيقي المكوّن من جدران وباب وسقف، في طرائف بشار بن برد: "ربابة ربة البيت" أو في مقامة الهمذاني البغدادية: "وهلمّ إلى البيت"، إيذاناً بانتقال القصيدة من الصحراء إلى المدينة، وتحول الخباء إلى مسكن مكتوم، فقير الفضاء، لا تلاعبه الريح، وليس قصراً منيفاً في الوقت ذاته، يقف صفاً مع بيوت أخرى على دروب ضيقة تسمى الشوارع، كما كان فضاء القصيدة يضيق على الشعراء الذين زهدوا بطلليات الأسلاف، وبحثوا عن مواضيع من عصرهم، احتاجت إلى أشكال جديدة أيضاً، بيوت هي القبور لأنها بيوت العاجزين عند ابن دراج القسطلي الأندلسي. وفي العصر الحديث، ومع التفات القصيدة إلى واقعها، استضافت القصيدة - التي هجرت حقل البيت الشعري- مفردة البيت في نصوص السياب والبياتي والقباني ودرويش، بيوت الحارات العتيقة، والقرى الفقيرة، البيوت التي ملأت شعراءنا بأسباب التذكر، وصار هجرها موتاً لها بحسب الدرويش: "البيوت تموت إذا غاب سكانها"، وربّما كانت القصة والرواية أكثر حفاوة من الشعر في هذا الجانب، فتلتقي عناوين مختلفة في الحديث عن "بيت مزدحم بالغائبين" للشاعر تمام تلاوي، إلى جانب "بيت الأشباح" لإيزابيلا الليندي، و "البيت الأخضر" لماريو فارغاس ليوسا، مروراً بعدة روايات أقل شهرة، تعطي انطباعاً عن ولع الأدب الحديث بهذا المكان.قبل أن يجدها الشاعر الحديث في أن لغته هي وطنه، كان الشاعر الجاهلي يتخذ من قصيدته أبياتاً، ومن نصوصه مخيّماً واسعاً لقبيلة كبيرة، ولكن البيت الحقيقي الأثير عنده كان بيت القصيد، قبل أن نبحث عن بيوت للإيجار، وقبل أن تجد الطائرات والصواريخ حكمة: "من هدّ وجد"، ويعود العاجزون إلى الخيمة الأولى، حيث تلعب الريح، ويلهو المطر.