16 سبتمبر 2025
تسجيلقدمنا في مقال سابق صورة الدولة الدينية في أوروبا خلال القرون الوسطى والتي قامت على أساس التحالف بين الملك والكنيسة والإقطاع ، وفي ظل هذه الدولة عاشت أوروبا في ظلام الجهل والطغيان ... وكان الناس مجرد عبيد للملك والإقطاعيين . وعندما اشتدت المظالم في أوروبا ، وتناحر الإقطاعيون نتيجة تناقص إمكانيات الحصول على إقطاعيات ، كما اشتد العداء بين ملوك أوروبا الذين كانوا كلهم يحكمون باسم الرب ، وكان كل ملك يريد أن يحكم وحده باعتباره ظل الله على الأرض . لذلك تقدم البابا إربان الثاني ليقدم لأوروبا الحل في صيحة أنقذوا الديار المقدسة ، وقبر المسيح من الكفار ويعني بذلك المسلمين . ساهم الملوك والإقطاعيون في نشر الدعوة بسرعة ليجمعوا الجيوش ، ويعينوا عليها الفرسان الساخطين الذين كانوا يريدون الحصول على إقطاعيات ، فإن انتصر هؤلاء الفرسان فيمكن أن يحصلوا على إقطاعيات في الشرق الساحر الغامض ، وإن ماتوا تخلص الإقطاعيون القدامى من معارضتهم وسخطهم . أما الناس فقد وجدوا في تلك الحروب فرصة للتحرر من العبودية للإقطاعيين أو الموت ، فالقساوسة أخبروهم بأن كل من يموت في هذه الحرب يذهب إلى السماء (الجنة ) ... ولأنهم لا يمتلكون ثمن صكوك الغفران ، ويعيشون حياة ذليلة الموت أفضل كثيراً منها فقد تجمعوا بسرعة في هذه الجيوش الذاهبة لتحرير قبر المسيح من الكفار المسلمين !!. هكذا خلت أوروبا للملوك وللإقطاعيين الكبار ليرتكبوا كل الآثام ، ويمارسوا كل أنواع الظلم ، في غياب الفرسان المعارضين الذين ذهبوا يحررون قبر المسيح ، وتركوا زوجاتهم بعد أن ألبسوهن أحزمة العفة . ولقد جاءت الجيوش الصليبية في فترة تمزقت فيها الدولة الإسلامية فاستطاعت أن تحقق انتصارات سريعة أثارت أشواق ملوك أوروبا وفرسانها للحاق بهذه الجيوش لتحقيق هدف معلن هو إرضاء الرب وأهداف أخرى دنيوية هي توسيع الممالك والإقطاعيات وتفويت الفرصة على الملوك الآخرين حتى لا يحصلوا على مجد النصر دونهم . وبالرغم من ضعف الدولة الإسلامية في هذه الفترة وتمزقها إلا أن الجنود الصليبيين العاديين اكتشفوا أفكاراً جديدة تختلف بشكل كبير عن الأفكار التي كانت سائدة في أوروبا في ذلك الوقت . ربما يكون أهم ما اكتشفوه أن المسلمين حتى في حالة الضعف يحرصون على إقامة العدل ، وأن المسلمين ليسوا عبيداً للملوك والإقطاعيين ، وأن هناك مساواة بين المسلمين . إن من يقرأ كتاب أسامة بن منقذ " الاعتبار " يمكن أن يكتشف التحول الذي طرأ على حياة الجنود الصليبيين ، وكيف أن الجندي الصليبي كان جلفاً جاهلاً لا يعرف شيئاً عن الحياة الإنسانية ، ولذلك فإن الكثير من الجنود الصليبيين كانوا يتمنون أن يقوم المسلمون بأسرهم لأن المسلمين يقدمون طعاماً طيباً لأسراهم ، ويعاملونهم بشكل أفضل من معاملة قادتهم من النبلاء الإقطاعيين . وكان الجندي الصليبي يتمنى أن يجرح في المعركة فيأخذه المسلمون ليقوموا بعلاجه في مشافيهم ، فأوروبا لم تكن تعرف المستشفيات وكان الجندي الصليبي يصيبه الحزن عندما يشفى فيخرجه المسلمون من المستشفى لأنه كان يحصل على طعام نظيف وطيب ، وهو يحصل على نفس الطعام الذي يأكله المسلمون ، والذي لا يختلف كثيراً عن الطعام الذي يأكله الأمراء والقادة المسلمون . ففي الجيوش الصليبية لم يكن الجندي يحصل إلا على الجوع والبؤس والقهر وضرب السياط ، بينما يقدم الطعام الفاخر للقادة النبلاء الذين تجري في عروقهم الدماء الزرقاء ، والذين هم سادة بحكم الميلاد لا بحكم الكفاءة والمميزات الشخصية ، فالقائد يحصل على كل شيء بحكم وضعه الاجتماعي وبإرادة الملك التي إرادة الله ، أما الجندي فإنه جاء ليموت ، فإذا تحقق النصر فالفضل للسادة النبلاء وليس له من الأمر شيء ... كل ما يمكن أن يحصل عليه هو أنه سيذهب إلى السماء طبقاً لوعد القسيس . في ضوء ذلك يمكن أن نفهم تطورات الصراع الصليبي الإسلامي ، حيث لم يكن الصراع مجرد حرب تحسمها الجيوش والأسلحة . فبالرغم من أن المسلمين قد انهزموا عسكرياً في الكثير من المعارك ، ومن أهمها معركة القدس التي قتل خلالها الصليبيون 70 ألفا من المسلمين حتى خاضت الخيل في بحار الدماء التي وصلت إلى ركب الخيول ، إلا أن المسلمين انتصروا حضارياً . وكان هذا الانتصار الحضاري أساسا ًللنصر العسكري الذي تحقق بعد ذلك على يد صلاح الدين في حطين ، ثم في معارك أخرى أهمها معركة المنصورة . كانت أهم نتائج هذا الصراع الطويل أن جنود الصليبيين عادوا إلى أوروبا بأفكار جديدة عن الحرية والعدل والمساواة والحقوق تعلموها من المسلمين ، وكانت أهم عوامل هدم الدولة الدينية في أوروبا . كانت أهم نتائج هذا الصراع أن الجنود الصليبيين حصلوا من المسلمين على المعرفة التي حرموا منها في أوروبا ولم تعد الكنيسة قادرة على احتكار المعرفة ، لذلك كان من الطبيعي أن تسقط الدولة الدينية الأوروبية .