17 سبتمبر 2025
تسجيلعرض الأستاذ محمد حسنين هيكل للموقف في مصر والمحيط العربي، وخطط أمريكا والناتو واستراتيجية "الباب المفتوح" التي أقرها الناتو في نوفمبر 2010 واشترك في صياغتها لجنة أسموها لجنة الحكماء من 12 عضوا برئاسة مادلين أولبريت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، وأعدت اللجنة تصورها في ثمانية عشر شهرا، واستمعت إلى 1000 شخص حول أمر جنوب المتوسط، والعدو غير المحدد وكيفية التعامل معه.وتداعت خلال الحديث (6 حلقات على مدى شهر ونصف)، الحقائق والوقائع والمعلومات لتؤكد طبيعة المواجهة العربية في اللحظة، ومدى التباين بين عشوائية المواقف العربية، والخطط التي تواجهها والمعدة سلفا وإن كان لحظة إعدادها لم تكن معالم ما تواجهه هذه الاستراتيجيات محددا كليا، ولكن مصدر الخطر محدد موقعه، وطبيعة المصالح محددة قطعيا حتى وأن تنوعت بين العناصر المكونة للناتو، ثم الفكر يسبق الفعل، والرؤية تتلوها المهام وبوضوح، والعناصر المكونة للإمكانات محددة قطعيا، والهدف المستقبل، ليس بالإغراق في الماضي، ولا هو ببناء أخلاقي أو ديني، غير إنهم يعلمون ماهية "أفيونه" المنطقة التي سيجري التعامل معها، وسبل استخدامها، وبين أيديهم درس أفغانستان وإعلان الجهاد ضد الجيش السوفييتي الملحد، هكذا في العصر يجري الإعداد للمواجهات لتحقيق المصالح.كانت الحلقات تحت عنوان (مصر أين؟.. وإلى أين؟)، غير أن متابعة دقيقة لمحتوي الحلقات أضفي إلى عنوانها كلمة "للأسف"، وكأن العنوان قد تحول إلى "للأسف مصر أين؟ وللأسف مصر إلى أين؟".لم يأسف الأستاذ هيكل على مصر الوطن والشعب، ولكن أسفه على متاهة ألمت بالعقل المصري، وأهدرت ثورة شعب سواء في تونس أو مصر، فاجأ العالم بحركته متجاوزا كل احتمالات حكماء الناتو، وكان الأسف موجها إلى حالة الانهيار الداخلي الذي اعتبر أن الثورة الشعبية فتحت الباب أمام كيانات لا تملك رؤية للمستقبل وتأبي إلا أن تظل صريعة فكر تكلس عند حالة النشوء منذ قرن، ولأنها لا تملك رؤية للمستقبل أو مقومات لهذه الرؤية، صارت بإرادتها أو بلا وعي أحد أدوات الناتو في تحقيق إستراتيجيته تجاه المنطقة، ورفعت عن الناتو في أكثر من قطر عربي عبء الاشتباك وتولت عنه تفكيك الإرادة الشعبية وتوجيهها لغير المستقبل. وكان الأسف علي حالة الوعي بما يجري من حولنا، وافتقاد الانحياز، ومن ثم إهدار قدرة التصدي والتعامل، وضياع الخطاب السياسي لغياب رؤية المستقبل، وتفكيك اللحمة بين الشعب، وإعمال مقومات الانقسام، دون أن يكون للناتو دورا أو يبذل لتحقيق الانقسام جهداً.الأستاذ هيكل ليس في حاجة إلى شهادة من أحد، بل نحتاج منه أن يتجاوز الحكمة التي يلوذ بها أنه يقول كلمته ويمضي، وليكن أنه سيكتفي بكلمة يقولها ليمضي بعيدا عن مسؤوليات التنفيذ والدعوة، ولكنه مطالب بان يستكمل كلمته ولا يدع شيئا منها لقادم من أيام لأننا لا نملك ترف استنزاف الزمن ولا عبء غياب المعلومات. أن واحدا من أهم ما يتسم به هيكل هو انحيازه للقومية العربية، وللأبعاد الاجتماعية في دعوتها المعاصرة، ويملك غير ذلك بانوراما القرن العشرين ووقائع المواجهات العربية دون تزييف أو وهم، ومازال يحتفظ بتواصله مع عصره، وإمساكه على جمرة الانحياز لأمته.عرض هيكل في حديثه لأمرين، كليهما يؤذن بمواجهات لا حد لها في المستقبل المنظور، الأمر الأول هو "دستور بالإكراه" بديلا عن "دستور بالتوافق"، والأمر الثاني أن "حل جماعة الإخوان" هو مستقبلها. كلا الأمرين يعني أن السلطة القائمة تحمل بذور فنائها في ذاتها، خاصة أنها افتقدت حس المسؤولية، واستطابت الاستحواذ على السلطة. وأكدت وقائع ما جري في دولة الإمارات وبعدها ما رشح من أخبار من الكويت أن انكشاف الجماعة تجاوز مصر للخليج العربي الذي كان مصدرا رئيسا لتمويلها، وكانت حالة الفزع لدى السلطة في مصر والتي كشفها إرسال مساعد للرئيس المصري بصحبة مدير المخابرات المصرية إلى دولة الإمارات لبحث هذا الأمر، هو في ذاته تأكيد بأن عصبا للتنظيم قد جرى المساس به، وله علاقة بالتنظيم في مصر، وزاد الأمر انكشافا أن التقرير الذي عرض على الرئيس المصري عرض أيضاً على مكتب إرشاد الجماعة، وهو ما يعني أن خللا جوهريا في شأن الأمن القومي المصري صار واقعا.إن تراكم تصرفات الرئيس المنتخب والذي لم يستطع أن يتجاوز أنه عضو جماعة، وانه رئيس انتخب لمصر، والتصريحات والأفعال وصلت حدا من الوضوح يفرض تغييرا جوهريا في تقييمها ومدي القبول بها وأسلوب التعامل معها.هذا التراكم لا يفرض أن يكون التغيير في مواجهة السلطة وحدها، ولكن أيضا التغيير مطلوب في كيفية بناء القوة الوطنية المصرية أيضا في مواجهة ما أطلق عليه المعارضة تحت مسمى جبهة الإنقاذ، والأمر يتجاوز الملاحظات علي الأشخاص، وهي موجودة، ولا انتهاج ما أطلق عليه المنهج الديمقراطي وبالصناديق، دون بذل جهد يجري به التحضير كي تكون الصناديق أداة يعوض عجز البدائل الأخرى، وعجز الإبداع.إن هجمة تغييب الهوية المصرية، وهدم الدولة، وتغيير مفهوم الأمن القومي، يفرض إعادة بناء مقومات القوة الثالثة، فمجرد السعي لبناء القوة الثالثة من مجموع القوي الاجتماعية في المجتمع، يجب ربطه بقوى الدولة والهوية والفكر.بناء القوة الثالثة في مصر لمواجهة حالة التشتت والوهم، تفترض إيجاد رابطا بين قوة المجتمع الصلبة المنوط بها الدفاع عن الأمن القومي، والتي تتمثل في القوات المسلحة المصرية وأجهزة مصر السيادية التي لا يجب أن ينحرف بها تغيير السلطة عن استراتيجية الأمن والعقيدة القتالية، وتفترض إيجاد رابطا جامعا ضمن هذا التكوين للأزهر والإعلام والقضاء ورجال الثقافة والفكر في المجتمع المصري، أن هذه القوي مطالبة أن تعبر عن نفسها بوضوح يواجه وضوح الاعتداء علي الهوية والدولة ومفهوم الأمن القومي.السؤال الملح علي مصر وهي تسعي إلى استعادت شخصيتها، ماذا نرى في التطاحن مع مصر من الناتو وأميركا وإسرائيل، ومن تركيا، ومن إيران، ومما يدور من حولنا من تغييرات جوهرية في الجغرافيا السياسية، وطبيعة القوي الناشئة فوق الأرض العربية؟إن اتجاه السؤال حائرا إلى خارج مصر عن كيف نواجه المخاطر ونحدد البوصلة، هو دلالة قاطعة عن حالة الاضطراب الداخلي والحركة فوق رمال متحركة.ما يجري في شأن قانون الانتخابات الجديد مثال صارخ علي التشتت والوهم، فالذين يتجهون إلى خوض الانتخابات النيابية في أبريل القادم، لا رأي لهم في قانون الانتخابات الجديد، بل إن من تصدي لواحد من مواده والتي تفتح الباب لمن لم يؤدي الخدمة العسكرية للترشح هو ممثل الجيش، وكشف أن الحزب الوطني حاول من قبل أن يتجه ذات الاتجاه وأن رفض المؤسسة العسكرية لهذه المادة هو ما حال دون إقرارها.الأمر يتجاوز الصراع السياسي على السلطة، الصراع الآن على وجود مصر ذاتها، وإبعاد هذا الوجود، إن أحداثا تجري تخرج فيها جماعات مسلحة لضرب المتظاهرين حول قصر الاتحادية للمرة الثانية وحرق الخيام هناك، تؤكد أن الصراع لم يعد كلمة ورأيا، ولكنه فعل وصل للدم يوم 5 ديسمبر عند الاتحادية، وقام باستخدام سلاح الحصار ليحول دون مؤسسات الدولة ومهامها.والأمر يتجاوز محاولات من غير ذي علم ومعرفة لحل الأزمة الاقتصادية، ولم يعد مطلب "عيش" في نداءات الشعب يجد له لدى السلطة الحاكمة أذنا تسمع أو جهدا لتحقيقه، وصار معنى العيش أن تحل السلطة مشكلة الأزمة الاقتصادية بذات فكر النظام السابق، وادعاء أن سبب الأزمة هو سياسة الدعم، لتفقد بوصلتها، فتجري المصالحات مع من نهب ثروة الوطن، مصالحة مع الفساد، وغلاء وقهر للمواطنين، لتفتح الباب للصراع على لقمة العيش، وكأن عدم درايتهم بحاجات الشعب تنفي وجود عقول وأفكار غير تلك التي يدعونها لحل أزمة العيش في مصر. الفارق جوهري بين شعب يحتاج العيش ببناء اقتصادي مستقل، وبين سلطة تتسول من الداخل والخارج دون رؤية واضحة لمفهوم التنمية والعدالة الاجتماعية.السلطة التي ترتعش يديها في شأن كل ما يحيق بمصر من مخاطر، لا تجد من يردعها في الاستيلاء علي مفاصل الدولة وإحالتها إلى دولة قاعدة لجماعة الإخوان المحكوم عليها بالتحلل، لاغترابها عن وطن وأمة وضرورات مستقبل.ليس الحل في انتظار ما تمطر به السماء، ولكن الحل في تجمع للقوي التي تشكل الهوية المصرية، ومسؤولة عن أمنها القومي وتحمي الدولة والشخصية المميزة لها.