16 سبتمبر 2025

تسجيل

الزعتري

15 يناير 2013

أعترف أن المأساة أكبر من حمولة الكلام والمعنى، مأساة من يدفع الثمن على حافّة النهاية، وهم دائماً من يدفع الثمن، ويقبض الآخرون صمودهم مناصب ووجاهات، ففي الزعتري الذي صار وصمة عار في جبين الجميع ليس للنص خاتمة، حلقات من الأمل والكذب وزيارات الكاميرا صحبة وجوه عابرة، تمسح المكان بابتسامة وتمضي، وتترك أهل الزعتري عرضة للمهانة اليومية خلف الرغيف والكرامة وسوق نخاسة جديد يدفع السوريون ثمنه، فلا أقطاب النظام يعانون من جوعهم، ولا صقور المعارضة يعانون بردهم، هنا وهناك، بين القصور الفخمة وفنادق النجوم الخمس.. ثمة أرغفة بيضاء ومدفئ وشاشات عملاقة، على استعداد للبقاء في حلبة الصراع حتى آخر سوري.أعترف وأصرخ: " في خيمة الزعتري / كتبت في دفتري/ أنشودةً مرةً / تضيقُ عن أسطري/ وصاحبٍ قال لي / في نشوةِ المستهترِ / أذاك شيخٌ بدا..في خيمة الزعتري؟ صفه لنا يا فتى / صفه في الحال الزّري"..أعترف وأصرخ.. لم يكرم قوم وفادة ضيوف مثلما أكرمهم أهل الزعتري، فقد مرّ بالشام أقوام ساقتهم الحروب إلى شامة الدنيا، وما أسكنوهم خيمة، ولا (تطايبوا عليهم) ولا أشاروا إليهم أنّ هؤلاء لاجئون أو نازحون.أمرّ على نصوص الأصدقاء أستعيد بها شمعة لعلها تمرّ بأصابع طفلة مقرورة.. لعل نهايتها لن تكون كنهاية بائعة الكبريت، فأعثر على الحمصي عبد القادر الحصني يتلمس آثار الدمار: " أنا في انتظارِك / أكاد أرى الفجرَ ينشقُّ عنكِ / وينثر صبحَ لآلئ بيضاءَ جمّعها من محارِكْ / حجابك هذا الوشاح من النور، حين يشفُّ أراكِ/ وأشعر أني كما أنا / لكنّني الآنَ أمسح بالراحتين غبارَ دمارِك/ وأمسحُ وجهي.. مباركةٌ أنتِ/ مازالَ من ياسمين الصباحِ صباحٌ / على باب دارِكْ". وأعود إلى جزيرة الخير.. التي تفتقد وسائل التدفئة باحثاً عن أمّي وأبنائي.. فأتعثر بنزق أديب حسن محمد محذّراً من البرد: " في كانونْ/ يُولِدُ ذئبٌ مجنونْ/ تأْمنهُ كلّ خراف الكونِ/ ولا تُوْحشهُ البريّةُ والأرضونْ"... وأهش بعصاي على النصوص.. ليخطفني صوت جاره إبراهيم الزيدي: "وداعا../ كيف أنتظر..؟ وحباً../ كيف أختصر..؟ وكيف نموت أغنية، ولا عودٌ.. ولا وترُ!! / أيا وطناً بلا مأوى، يضيع مبتدا الأسماء، كيف يهمه الخبرُ..؟ فأسأل إن كان شعراء الداخل هكذا فكيف بشعراء المنفى، وكل سوري منفي حتى يثبت العكس، فيجيبني فرج بيرقدار: "تقول: اجتهد في الغيابْ؟!/ يا جنونَك ماذا تقول؟! / ثلاثة آلاف منفى / وراء الطلول التي لا شروح لها / غيرُ ما في دياناتها من عبيد.....ثلاثة آلاف ندّاهةٍ / خلف ظهري".أعترف..ببرد الشام وهو يصلني مخففاً، فآخذ حصتي منه، وأتذكّر..كم كنا نرتجف في حضرة البرد، وفي الطريق تتيبّس أيادينا، قبل أن نلقى بأنفسنا إلى حضن البيت، منتظرين الدفء العابر لحظات الألم التي تنتاب الأصابع.. والآن؟ أين المدافئ..أين البيت..لاشيء غير الزعتري وأخواته، ولقطات الصور التي صارت مادة لكتابة نص وصفي، أعترف وأردد مع الحمصي النازح حكمة شافي: "ملتصقَين بانتظار الموت، مثل حاجبين متَّصِلَين في جبهة رجلٍ عجوز / أنتِ بهيّةٌ مثل مئذنةٍ مملوكية/ وأنا مرتابٌ من هذا العالم مثل قلب أرنب / الموتُ يبحث عن ثغرةٍ في الجدار ليصْفرَ فيها / وينشرَ الجثثَ في البيوت/ الموتُ يبحث عن معولٍ ليهدمَ مئذنةً / الوقتُ صِفْرٌ تماماً / الوقت يصلحُ للحكايات المؤجَّلة/ احكي لي حكايةً كنتِ ستحكينها لأحفادكِ / وسأحكي لكِ عن مصارع الشعراء، وعن الندم على الكلام الذي لم يستطيعوا قولَه / احكي لي عن عينين خضراوين في زمن المجاعة/ وسأحكي لكِ عن العالم الذي يشبه عصا رفيعةً سهلةَ الكسر/ احكي لي عن يدين تحوِّلان الجثّةَ إلى طائرٍ أبيضَ / وسأحكي لكِ عن الطيور البيضاء التي تصبح جثثاً".