29 أكتوبر 2025

تسجيل

فلسطين في الشعر الشعبي القطري

14 ديسمبر 2020

لطالما ارتبطت القضية الفلسطينية بوجدان شعوب الخليج العربي والجزيرة العربية، وذلك منذ فجر التطهير العرقي الذي حصل عام ١٩٤٨ والتهجير الذي ألم بالشعب الفلسطيني، عندما سلبت أرضه أمام مرأى العالم كله، فهذه من أسمى القضايا الأخلاقية العادلة في عالمنا المعاصر على الإطلاق، وبوسعنا اعتبارها معياراً لمبادئ الإنسان وميزاناً لمدى إيمانه بالإنصاف والعدالة، مهما كانت ملّته، ولسنا نرى الحق الفلسطيني في جولات التطبيع العربية الحاصلة إلا حقاً يزداد إشراقاً وأصالة وقيمة ورسوخاً، وبالرغم من الخذلان، فإنه لابد من فجرٍ قريب، يُشهد فيه الحق، آئباً إلى أهله. لقد تمثلت فلسطين في الشعر القطري تمثّلاً واسعاً، نجد ذلك في قصائد شعراء كبار مثل عمير بن عَفِيشَة الشهواني (١٨٩٠-١٩٨٢) الذي قال في قصيدة طويلة: ”فلسطين يا أهلها إلى وين صبرها وهي بيد من بالظلم كثّر تلاعبه تنخى هل الشيمة وتبكي وتمتني عسى وقتنا الحاضر يبين الشجاع به!“ وفي قصيد عبدالله بن سعد المسند المهنّدي (١٩١٠-١٩٧٦): ”الأقصى عساك من الإله مثاب لبّيك يا ثالث حرم ومجاب الأقصى بحول الله نجهد بثارك ولا عندنا غير الجهاد جواب“ وقصائد أُخَر، تتوالد في كل مرحلة، مجددة التزامها الروحي، ونابضة بعهدها الذي لا تشوبه شائبة، والشعر الشعبي/النبطي في واقع الأمر، هو وعاءٌ لذاكرة الأمة، ولسانها الذي يلهج بخواطرها، ويجسّد مشاعرها الصادقة، ويعكس مدى ارتباطها بالحدث وتفاعلها، ومن تلك التجارب المعبّرة عن هاجس القضية الفلسطينية في ذاكرة قطر التجربة المنسيّة للشاعر الراحل والمثقف الوطني محمد عبدالله بن الأسود المري (١٩٥٨-٢٠٠٢) الذي صدرت له عدة دواوين من أهمها ديوان زمان الصمت، وهو ديوان خاص كرّسه الشاعر للقضية الفلسطينية والإنسان العربي، حيث بدأ انشغاله - بأحداثها وتطوراتها وانعكاسها على الفلسطينيين والوضع العربي- منذ سنٍّ مبكرة، كان يحرص في ذلك على ترجمة تفاعله إلى قصائد نبطيّة، فنجد كل قصيدةٍ في ديوانه وقد ارتبطت بواقعة ما وتاريخٍ معيّن. كانت رحلة الهم الفلسطيني في قصائد ابن الأسود طويلة ومتجدّدة، في مسيرته الشعريّة، يتجلّى ذلك في المدى الزمني الذي بدأ فيه توثيق بواكير الوعي بالقضية وحمولاتها، وأعني منذ منتصف السبعينيات تزامناً مع الحرب الأهلية في لبنان الجريح التي عبّر عنها، مروراً بالمآسي التي لا تسقط من ذاكرة النضال والتضحية مثل مجزرة صبرا وشاتيلا ١٩٨٢، والانتفاضة الأولى ١٩٨٧، وصولاً إلى المفاوضات وتداعياتها، ومن أبرز الدلالات الاعتبارية هنا هي أن الهم الذي سكن فؤاد الشاعر ابن الأسود، كان هماً واعياً بمدى ارتباط الحالة الفلسطينية والأوضاع العربية المأزومة، وأنه فلسطيني بقدر ما هو عربيّ، وقطريّ بقدر ما هو فلسطيني. ولا نكاد نجد قصيدة إلا وهي تعبّر عن نبض الشارع وتفاصيله، وتنحاز إليه بملء طاقتها التعبيرية، وانفعالها الروحي، ومن ثم بوسعنا القول إنها تلك القصيدة التي حاولت أن تنطق بلسان اليتيم المحروم والثكلى المكلومة والشيخ المستضعف، والجموع العزلاء، والعجز العربي عموما؛ لم تعدُ تعددية الأصوات التي نلمحها باختلاف أجواء القصائد وتنوّع قوالبها البنائية إلا صوتاً واحداً، تصدح فيه نبرة جوهريّة حاضرة، هي نبرة المعاناة، ونبرات أخرى تترادف، تُطلَقُ أحياناً بحدّة، وتُسمَعُ أحياناً مرتجفة، وهذه نبرات تأتي في إطار ربّتها الأولى، لتفصح عن مساحات شاسعة من مشاعر الالتزام والتضامن والإخلاص القطريّ للتجربة الفلسطينية، وليس يخلو وجه ذلك الإفصاح من ملامحِ صورٍ نفسيّةٍ بليغة العمق، تبرز فيها آثار الانكسار، واليأس، والإخفاق؛ ولو تبيّن لقارئ الديوان بعض الارتباك الفنّي الذي يمسُّ تركيب القصائد وبناءها وتسلسلها، فإن هذا لإشارة إلى مستوى الانفلات الذي كان يمر به الوطن العربي، جرّاء انكشافه للأعداء، واعتلاله بهزائمه؛ وإذا كان للنقد مساحته المشروعة الضرورية في أيّما سياق، فإن ثمة تجارب شعرية لا يسعنا فهمها اعتماداً على النقد الأدبي وحده، لاسيّما تجربة كهذه، كُتبت بلغة السليقة والعفوية، وبالانفعالية الحيّة التي مزجت قلوب الشعوب وكشفت عما يغور في داخلها، بشكل ينأى عن التكثيف والتكلّف، وربما على نحوٍ مُفرط، ولكنّا مع محمد بن الأسود إذ نتلمس بوضوح حضور اللغة الشعبية، فإنّا نرى نأيه عن أشكال التعبير النخبوية والمعقّدة نأياً واعياً بالزيف الذي قد يَعْتَوِرُها، وبالتالي لا يعبّر عنها تعبيراً حقيقياً؛ وإنما أراد هو أن يصف الإحساس الشعبي بالمأساة الفلسطينية كما هي عليه في الواقع، بفصاحتها وتلعثمها وروْعها واندهاشها؛ وإذا ما أردنا استيعاب مثل هذه التجربة وحتى نقدها، فنحن بحاجة إلى استحضار أبعاد السياق السبعيني والثمانيني والتسعيني بشتّى مآثره وتعقيداته وحالاته وأمراضه، وعلى وجه التحديد روح الظمأ والاضطراب التي كانت تسكنه. لقد كتب محمد بن الأسود وغيره من شعراء قطر في حب فلسطين، وفي الوفاء لها، وعبّروا عن ثبات هذا الحب مهما تقادم الدهر، وأن فلسطين عهداً يقوم مقام الذمّة، وليس ما سطّروه من آيات الشعر وشواهده إلا تعبيراً راسخاً لموقف شعب قطر وانتمائه والتزامه، على مدى العقود. طُبع ديوان زمان الصمت طبعة قديمة، ومن الصعوبة العثور على نسخه، بسبب نفادها، إلا نسخة واحدة ربما تتوفر في دار الكتب القطرية، وأخرى توجد في مكتبة جامعة قطر، ولعل هذه المقالة تحيي بعض الاهتمام، لتُعاد طباعته من جديد. قطعة قصيرة من قصيدة "هموم عربي" من ديوان زمان الصمت لمحمد عبدالله بن الأسود: أنا همّي من المشرق إلى المغرب حدود حماه على طول الوطن في ساحة المجهول يجذبني أنا همّي أنا همّى تعدّا بي حروف الجاه أنا همّي غدا جرحٍ تحت الاضلاع عاطبني أنا همّي على الفطرة ربيت من الصِّغِر ويّاه ترعرعت وربّى همّي، أنا أبني، وهو يبني أنا همّي فلسطين، وفلسطينٍ سبب ظلماه وشعبٍ شرّده حظه وشاف الهم والغبني دفع دمّه، دفع روحه، ملأ ذاك الثرى بأشْلاه يراود حلمه السامي وذا المجهول يرعبني". [email protected]