14 سبتمبر 2025
تسجيلكنت أملك في خزانة ثيابي الموضوعة في غرفتي الوحيدة بذلتين فصَّلتُهما منذ وقتٍ طويل عند (خ.ر) الذي ينحدر من غرب البلاد، ويمارس الخياطة أمام أحد دكاكين الأقمشة في وسط السوق الكبير. كانت إحدى البذلتين زرقاء غامقة، والأخرى قطيفة رمادية. لا أذكر متى ارتديت بذلةً آخر مرّة وفي أي مناسبة كان ذلك، ولا توجد في حياتي مناسبات تستوجب الأناقة، لكنَّي أخرجت البذلتين من الخزانة، وجدت على الزرقاء بقعةً كثيفةً من دهنٍ جاف، وخمَّنتُ أنني لابدَّ قد ارتديتها في حفل غداء أو عشاء أكلتُ فيه لحماً مدهناً، بينما الرمادية نظيفة تماماً، وتبدو لامعةً برغم عدم الاستعمال. نزعت ثيابي وحاولت ارتداءها، لكن جسدي دخل فيها بصعوبة، وصمّمت أن أعود بها إلى (خ.ر)، أوصيه أن يعيد تفكيكها وخياطتها على قياسي الجديد بعد أن ترهّلتُ وبرز بطني الذي كنت أحتفظ به ضامراً لفترة طويلة. كنت أودُّ تتبّع طقوس الكتابة عند (أ.ت)، ومنها طقس يكتب فيه بكامل أناقته في بهو فندقٍ راقٍ أو صالةٍ للمغادرين في أحد المطارات. بالنسبة للكتابة عارياً، لا توجد مشكلة، والكتابة مشرَّداً في الشوارع، لا توجد مشكلة، والكتابة على سطح قطار أو حافة ترعة أو عند مغنية الزار أمّونة البيضاء، لا توجد مشكلة أبداً، وأستطيع بما لي من صداقات قديمة في السجون والسجانين أن أقضي شهوراً في السجن، إن كانت روايتي التي سأكتبها تستدعي ذلك. طويتُ البذلة، وضعتها في كيس من أكياس التسوّق الكبيرة، لا أعرف كيف دخل بيتي، ولم أتسوّق من قبل بحجم ذلك الكيس، حيث كان تسوّقي محدوداً جدّاً، ولابدّ أن الكيس أتى برفقة العمة (ث)، حين كانت تزورني وتطعمني وتغسل ثيابي حتى استطعت النهوض من جديد. وقفت أمام الخيَّاط (خ.ر)، والكيس في يدي. كان مشغولاً بتناول شطيرة من الجبن الأبيض تناثرت بعض محتوياتها على قميص أصفر عالق بماكينته من دون أن ينفضها. رفع وجهه إلى وجهي ولم يبتسم. وضع الشطيرة على القميص ومدّ يداً خشنةً مقشّرة الأصابع لمصافحتي من دون أن ينهض من مكانه. في الماضي كان الخياط يترك ماكينته، يهرول باتجاهي حين أظهر في مرمى رؤيته، يحيّيني بعبارات لا يُحيَّا بها إلا كبار الشخصيات في الدولة، ويبدو متلهفاً لأخذ قياساتي بدقة، وغالباً ما يسلّمني قميصي أو بنطلوني، الذي أحضره قماشاً، مخيطاً ومكوياً قبل أن أغادر السوق، وأحياناً يتنازل عن أجرته بإصرارٍ غريب. لن أتذمّر من ضياع وظيفتي وساقي، ولن أعتبر اليد الباردة التي مدّها الخياط، ولم تبقَ داخل يدي سوى لحظة فقط، يداً باردة. أنا في مهمة تغذية الطقوس لأكتب رواية، والآن يعرف الجميع أنني خارج الخدمة، ووطّنت نفسي على هذا. فتحت الكيس وسلّمته البذلة طالباً تعديلها حتى تناسب قوامي المعدَّل. تسلّمها بلا حماس، وضعها أسفل مقعده المصنوع من البلاستيك الأبيض، وبحركات غير متحمسة أيضاً ربط مقياساً من القماش على صدري وخصري وفخذي وظهري، ودوَّن قراءاته على ورقة متَّسخة، كانت مكوَّرة على الأرض أمامه، التقطها وقام بفردها.