16 سبتمبر 2025
تسجيلفي عام 1996 دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول الأعضاء إلى الاحتفال باليوم العالمي للتسامح في 16 من نوفمبر، وذلك لإرساء مفهوم ومبادئ التسامح، ومن هذه المبادئ قبول الآخر والاحترام المتبادل بين الأمم والشعوب، ونبذ روح التفرقة والتعصب والكراهية وتقدير الاختلاف والصفات الإنسانية بين بني البشر جميعاً، وذلك عبر الانفتاح والتواصل وحرية الفكر والمعتقد. ولا أعتقد أننا كمجتمع إسلامي بحاجة إلى مثل هذه المناسبات والاحتفالات لكي نتعلم قيمة أصيلة في ديننا وخلقاً راسخاً من أخلاق نبينا الذي كان خلقه القرآن، إذ يتحتم أن يكون التسامح قيمة أصيلة تنشأ عليها الأجيال المسلمة، ولكن ما يحدث في واقع حياتنا - التي لم تعد حياتنا وإنما حياة مستوردة، لا تلائمنا، ولم تفصل من أجلنا، فنحن بارعون في اختيار ما لا يناسبنا وانتهاجه – يفرض علينا أن نشارك في مثل هذه المناسبات بما أننا ارتضينا أن نتنازل عن القيادة وصناعة القادة، واخترنا أن نعيش دور التابعين الخاضعين، فأصبحنا أكثر احتياجاً للشعور بمشاعر التسامح التي قد تدخل في مرحلة سبات عميق في معظم أيام السنة ونحتاج إلى من يوقظها ويذكرنا بها كل عام. وقبل أن تكون الدعوة إلى التسامح باتجاه الآخر، فإن الدعوة إلى التسامح الداخلي هي الأهم، فالتسامح لا ينطلق نحو الآخر ما دام الداخل مشوشاً وغير مستقر، حيث يتوجب على الإنسان أن يتصالح مع نفسه أولاً، وينظف مشاعره أولاً بأول، فلا يترك مجالاً للمشاعر السلبية أن تتراكم وتنهض كالمارد العملاق في أعماقه، فالتراكمات السلبية تعوق النفس البشرية من ممارسة حياتها بسعادة واطمئنان، ففائدة التسامح والسلام الداخلي تنعكس على حياة الإنسان وعطائه، قبل أن تمتد آثارها إلى غيره. فكيف يمكن أن يتعايش الإنسان بصفاء وود وفي أعماقه بقع السواد التي تملأ نفسه بمشاعر الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام من أي شخص قد تسبب له بالأذى في يوم من الأيام، أو بسبب اعتقاد سيئ عن شخص ما، آمن به فتلقفته أمواج الشك والحيرة في ظلماتٍ بعضها فوق بعض تتلاطم في بحر لجي!، وكم من بقع سوداء غائرة، بعيد قعرها طويل مداها نحاول أن نداريها بثوب النقاء والطهر تثقل عاتقنا وتنهش أرواحنا!. فكم من قلوب تنافرت، وكم من العلاقات تهاوت وتهشمت، وكم من الأسر تفككت وتنابذت، وتقاطع الأخوة والأصحاب بسبب كلمة أو تصرف دون قصد، أو خطأ اقترفه الإنسان في لحظات ضعف، أو حالة تهور واندفاع، فلم يحكم عقله ولم يقاوم شيطان نفسه، فهو يستحق التعاطف قبل أن يستحق العقاب، فهذه طبيعة الإنسان، فإقرارنا بالطبيعة الإنسانية التي فطرنا عليها هو بداية العلاج فكل ابن آدم خطّاء وعرضة للزلل، فلماذا لا نكون ربانيين ونتحلى بصفات الرحمن الرحيم، العفو الغفور الرؤوف؟. وفي الجانب الآخر هناك من يمضي في هذه الدنيا مؤنباً نفسه وموبخاً لها، يقسو عليها قسوة تصهر نفسه وتذيبها ألماً وشقاء، فيحملها ما لا تستطيع، من أدنى خطيئة أو تقصير بدر منه، وكأنه خُلق كاملاً لا يسهو ولا يذنب يقول الله تعالى في الذكر الحكيم "وَيَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ" وهنا فسر العلماء العفو بأنه مقدار ما ينفقون من المال، ولكن ماذا لو وضعناها في تصور آخر، بأن على الإنسان أن ينفق العفو والتسامح والصفح عن نفسه وعن الآخرين، فيقبل ويدبر بقلب صافٍ نقي كصفاء اللبن الأبيض، فلا يحمل في نفسه ذرة بغض أو ضغينة، هيناً ليناً تكاد الأرض لا تشعر بوقع خطواته، فهو كالعبير الندي إذا أقبل وكالفراشة الرقيقة إذا أدبر. فلينظر كل منا إلى دائرته، وليمح بقع الظلام التي تملأ خلجاته، فيتصالح مع نفسه، ويمد يد العفو إلى من أساء في حقه، لتزهر أوراق الخريف بداخله، وتعود عصافير الحب المهاجرة لتسكن ثنايا روحه. [email protected]