13 سبتمبر 2025

تسجيل

الهديفي (رحمه الله) كما عرفته (1 – 5)

14 أكتوبر 2021

في مغرب التاسع عشر من شهر يونيو من عام 1987م ، كنت أقف أمام القامة الكبيرة الوالد غانم –رحمه الله– وهو يومها قائد المباحث العامة في البرج الذي خُصِّص للإدارة، وكان من أول الأبراج التي تزينت بها منطقة الدفنة. وقد أحسن في الترحيب بي رغم فارق العمر، وتوليت مهمتي كإمام لمسجد المباحث العامة، وقد رُتِّب لي سكن في أسفل البناية الشاهقة، ومكثت أياماً وأنا أحاول أن أتعرف على المصلين المتغيِّرين حسب المُنَاوَبَات، وتشاورت مع بعضهم وحدثتهم عن رغبتي في إقامة دروس عقب الصلوات، لكن معظم من شاورتهم لم يشجعوا فكرة إقامة الدروس ربما لخصوصية أو حساسية المكان، لكني توكلت على الله وقدمت درسًا مختصرًا بعد صلاة المغرب، وكان القائد غانم– رحمه الله– حاضرًا، وبعد انتهاء الدرس خرجت أتجول جوار المبنى، وفجأة لاحظت أن حرَّاس المبنى يسرعون نحوي ليخبروني بأن العقيد القائد يطلبني لمقابلته فورًا، ثم صُعِد بي إلى الطابق الحادي عشر وأُدخِلت إلى مكتبه وقابلني بابتسامة، وقال: الدرس جميل وأنا أريد هذا الدرس ثلاثة أيام في الأسبوع، ثم استدار بالكرسي وخاطب جهة المُنَاوبة وقال: "أريد من الجميع أن يحضروا الدرس، فالدرس طابور"، فقال الموظف: لكن بعض الأفراد لهم أعمال قد يصعب عليهم، فقاطعه قائلاً: "الجميع يحضر الدرس وإذا كان هناك عمل ضروري فأنا أعرفكم به". ثم شكرني وخرجت من مكتبه، وأنا أشكر الله على توفيقه لأنه سبحانه وضع في طريقي هذا الطراز الفريد من الرجال في بداية حياتي العملية. ومما يثلج الصدر ويدل على حرصه على الخير إصراره على الحضور في الأمسيات التي فيها الدرس رغم المسافة بين منزله بمعيذر ومنطقة الدفنة، وكان إذا سلم من الصلاة يلتفت ليتأكد من الحضور، وكان دقيق الملاحظة جدًا حتى أنه بعد انتهاء الدرس قال لهم مرة: يوجد كذا شخص غياب عن الدرس، ودفعني الفضول إلى سؤال الضابط المناوب في تلك الليلة فأخبرني أن العدد الذي ذكره عن الغياب صحيح. وكنت أسمع دعاءه وتشجيعه بعد كل درس بل كان يخصني بعشاء خاص، واستمر في تلك العادة طيلة حياته، فالكرم كان له سجية –رحمه الله– وكثيراً ما يتذكر إخوانه وجيرانه فيرسل لهم من طعامه. توسعت فكرة الدروس عندما طلب دروسا للمستجدين، وكان يطالبني بإعادة بعض الدروس التي حضرها عليهم في الفترة الصباحية، وقد انعكس إكرام القائد لي على منسوبي الإدارة فوجدت التقدير والتشجيع، وعشت أخصب فترات عمري العلمية واستفدت من خصوصية المكان وهدوئه، فكانوا يوفرون لي سيارة للذهاب للمكتبات وحضور المحاضرات، وعلمت من الشباب أن كل ذلك كان بتوصية منه –رحمه الله. وقد كان تفاعل جميع الإخوة وبمختلف رتبهم مع الدروس كبيراً جداً، وتجلى ذلك من خلال الأسئلة، وأعتقد أن تلك المرحلة من البناء الأمني والشرطي كانت قاعدة النجاحات الكبرى التي لازالت تتصل وتبهر في وزارة الداخلية في قطر، وأسأل الله أن يكتب الأجر والثواب لكل من سَهِرَ ويسهر على أمن الناس، وبشرى للصادقين بقول رسولنا الأمين: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله". وأرجو أن يكون فقيدنا قد فاز بالرُّتْبتَين فقد كان سريع الدمعة عند سماعة القرآن أو حضوره للدروس، وهو ركن في عملية البناء الأمني، وهنيئاً لمن يخلص في حفظ الأمن سعياً لتحقيق الأمان، وتلك أعين تحرس في سبيل الله –رحمه الله رحمة واسعة ورحم موتانا وموتى المسلمين.