17 سبتمبر 2025
تسجيلإن الناظر في التشريع الإسلامي يدرك مدى العمق النفسي المرعي فيه، وهذا يدل على الواقعية التي لا تجعل البشر ملائكة لا يخطئون ولا شياطين لا يصيبون، لأجل ذلك وضع التشريع الإسلامي ميزان قسط يحفظ للعلاقات بين الناس توازنها؛ أمنا لضمان استمرار الحب ودواما للألفة، وكذلك ليصون النفس من صدمات تلحق — في الغالب الأعم — أهل الإسراف في المشاعر، فوجه المرء إلى الاعتدال في المحبة، والاقتصاد في المديح، والإنصاف في المعاملة، والتوسط في المعاشرة، والالتزام بالشرع في المخالطة. يقول سيدنا عمر بن الخطاب — رضي الله عنه —: (لا يَكْن حُبُّك كَلَفاً ولا بُغْضُك تلفاً) والكلف شدة التعلق بالشيء، والتلف: الإهمال. وبهذا يلفت الإسلام النظر إلى الاعتدال في المحبة أو البغض على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما". رواه الترمذي في سننه وصححه الألباني. فإذا أحبب المرء أو أبغض فبقدر، وإذا اقترب فلغاية، وإذا هجر فلحكمة، فليس وراء كل هجر عتاب فكما قيل قديما: قد يكون العتاب ترك العتاب. وكما قال أحد الشعراء: إني ليهجرني الصديق تجنيا **** فأريه أن لهجره أسبابا وأخاف إن عاتبته أغريته **** فأرى له ترك العتاب عتابا وإذا بليت بجاهل متعاقل **** يدعو المحال من الأمور صوابا أوليته مني السكوتَ وربما **** كان السكوت عن الجواب جوابا لذا لا ينبغي أن يفرط الرجل في محبة أخ، كما لا يتجاوز في عداوة عدو، فإنه لا يدري متى تنتقل صداقة الصديق عداوة، ولا متى تنتقل عداوة العدو صداقة، بل كما قال أكثم بن صيفي: الانقباض من الناس مكسبة للعداوة، وإفراط الأنس مكسبة للملال. ويقصد أكثم أن الاقتصاد أدنى إلى السلامة. وكن معدناً للحلم، واصفح عن الأذى... فإنك راءٍ ما علمت وسامع وأحبب، إذا أحببت، حباً مقارباً ... فإنك لا تدري متى أنت نازع وأبغض إذا أبغضت غير مباعد ... فإنك لا تدري متى أنت راجع وفي ذلك يقول ابن القيم: من أحب شيئا سوى الله عز وجل فالضرر حاصل له بمحبوبه: إن وجد وإن فقد، فإنه إن فقده عذب بفواته وتألم على قدر تعلق قلبه، وإن وجده كان ما يحصل له من الألم قبل حصوله، ومن النكد في حال حصوله، ومن الحسرة عليه بعد فوته: أضعاف أضعاف ما في حصوله له من اللذة: فما في الأرض أشقى من محب **** وإن وجد الهوى حلو المذاق تراه باكيا في كل حال **** مخافة فرقة، أو لاشتياق فيبكي إن نأوا، شوقا إليهم**** ويبكي إن دنوا، حذر الفراق فتسخن عينه عند التلاقي**** وتسخن عينه عند الفراق ومع كل هذه النداءات فالوقاية من البداية أوفق للمرء، فعليه أن لا يكثر من قرناء لا يعرف عنهم ما يستروح له قلبه، ويسكب لمعرفته فؤاده. عدوك من صديقك مستفاد... فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه... يكون من الطعام أو الشراب