11 سبتمبر 2025

تسجيل

رفقاء البؤس

14 أغسطس 2022

دائماً هناك الجرح الغائر في دياجير الروح، جرح عميق لا يلتئم، فمن منا بلا ألم، بلا وجع ينقض هانئ باله، ينغص عليه هجوعه، مهما بدا مرتاحاً، ذلك الدمل المستعر بنار الأسى، المنتفخ بقيح المعاناة، المتحجر في درك النفوس، نظل نحاول أن نتجاوز وجوده، أن نتجاهل ألمه، ولكن هيهات، تظل حباله الطويلة تشدنا إليه مهما حاولنا صد جلادته، ذلك اللاعب الخفي الذي يتحكم في أهوائنا وأمزجتنا وقراراتنا، من هوة سحيقة، دون أن نشعر، هل جربت يوماً ذلك الشعور بالضيق بلا سبب ظاهر لك؟، هل جربت أن تسافر وتنفق وتحتفل ورغم ذلك تشعر بغصة؟، وأن تجلس مع صديق تفضفض وتحكي ربما عن كل شيء ما عدا ذلك الشيء، لأنه موجع مؤلم، كم مرة نظرت في المرآة وأنت في أبهى حلة، إلا أنك تشعر أن المرآة مجروحة وملوثة. تلك الندوب غالباً ما تعيش في أغوار النفس، كأطلال استوطنتها مشاعر البؤس والندم مرتعاً لها، تتكاثر فيها وتتوالد، وتجتر أذيال الحزن بين الفينة والأخرى، فتمتد وتنكمش بحسب حرارة الظروف والمواقف التي تمر بها، فتارة تخرج كالمارد المزمجر، يلهب من حوله بأجيج غضبه، وتارة تكفن صاحبها بالصمت والكآبة، وهي في فوران قلق مستمر، كغلاية بركانية، تقذف حممها بين الحين والآخر، ويروح ضحاياها أبرياء، يجهلون بوجودها خامدة هناك، بينما ضحيتها الأكبر، أنت، حيث تسمح لها أن تستمر في عبثها دون أن تضع لها حداً يقوض أركانها، والحقيقة أن معظمنا يجهل كيفية الوصول إليها، فهي تستقر تحت طبقات الضباب المتبخرة من بحور النفس ومستنقعاتها، ذلك الضباب الذي يغشى البصيرة، فلا تكاد تقشع النور والخير الكامن في الحياة. وهنا لابد من أن تندس بين جيوش الضباب العزل إلا من سلاح المشاعر المتثاقلة على تخوم النفس، وتسافر في رحلة بعيدة في أعماقها، حتى تبصر طلائع الطفولة، فتخترق صفوفها، وتمحصها صفاً صفاً، علك تجد بعض الجنود يصرخون ألماً جراء جراحهم المتقيحة، يستنجدونك ويستعطفونك منذ سنين حائرة، فتضمد جراحهم، حتى لا يتقيأون عليك باقي الدهر بآهات أوجاعهم الملتهبة، أو ربما توقفت عند معابر المراهقة، فوجدت المهاجرين ممن تقطعت بهم الأسباب، وقد فغروا أفواههم من شدة الجوع والعطش، وتجمدت أصواتهم من شدة البرد، فتطعمهم وتسقيهم وتدفئهم، وتوصلهم إلى بر الأمان. أو بينما أنت في رحلتك وقفت على أبواب الشباب، فرأيت المتسولين الضعاف، والمشردين بلا مأوى، والفقراء والمرضى يحتضرون بأوجاع الحياة، فتغنهم مما أغناك الله، وتوسع عليهم، وترد سؤالهم، وتقضي حاجتهم، فلا تكون لديهم حجة عليك تكدر حياتك. رحلة لابد منها، حتى يطيب لك العيش ما تبقى لك من سني عمرك، فهؤلاء رفقاء البؤس، سيظلون يصاحبونك في رحلتك، يصرخون بلا أناة، فقد أجزعهم الصبر، وأرهبهم الخوف، وأقنطهم طول البقاء بلا سامع لضجيج نوابضهم، وزئير معاناتهم.