26 سبتمبر 2025

تسجيل

دروز بلغراد

14 أغسطس 2012

تأتي رواية دروز بلغراد للبناني ربيع جابر في سياق توجه عربي جديد لكتابة الرواية التاريخية ، بعد مرور قرابة مائة سنة على تجربة جورجي زيدان رائد هذا المضمار وما تلاه من تجارب وعلي أحمد باكثير وشكيب أرسلان ... وغيرهم، وذلك قبل أن يلتفت الروائيون العرب إلى الواقع المعاصر ، ولعلّ هذا التوجه الجديد الذاهب إلى مناطق رمادية في التاريخ ، والتاريخ القريب الشفاهي .. شبه المجهول في صفحات التاريخ ، قد جعل روايات مثل :" توترات القبطي " للسوداني أمير تاج السرّ ، و " سلالم الشرق " للبناني أمين معلوف ، و"يوميات يهودي من دمشق" للسوري إبراهيم الجبين .. قد جعلها أثيرة القراءة وهي تقدم وجبة سردية من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عن التنوع الديمغرافي الحقبة العثمانية في خضم تعايش الهويات المختلفة بخطاباتها المتناقضة . يظهر الآخر ( حنا يعقوب المسيحي ) في الرواية ضحية تسامح الوالي التركي مع أحد مشايخ الدروز الذي سأل الوالي التخفيف عن أولاده المحكوم عليهم بالنفي إلى بلغراد وكانت تحت سيطرة العثمانيين، وذلك على خلفية الحرب الأهلية اللبنانية أواسط القرن التاسع عشر ، فطلب منه الوالي استبقاء أحد أولاده الخمسة، وعند إقلاع السفينة يبحث الضابط العثماني عمّن يحلّ مكان الفتى المُعفى فلا يجد إلا حنا يعقوب بائع البيض المسلوق في حارات بيروت وعلى شاطئها ، الذي يستدرَج إلى الخديعة بكل بساطة، ويركب مع المحكومين إثر لطمة تفقده أسنانه، ويحمل اسم الفتى الدرزي المُعفي (سليمان عزالدين)، ويعيش مع الجماعة (الدروز) كواحد منهم، يتعاطفون معه، ويواسونه ، ويساعدونه في مرضه في سجن بلغراد الرهيب ، قبل أن ينتقلوا إلى البوسنة . وفي متوالية عكسية يتناقص المحابيس يوماً بعد يوم ، حتى إن أحدهم يحسب أن وجود حنا يعقوب معه سبب اللعنة، وذلك للظلم الذي طاله، و لكن ّ تداعيات الأحداث تنسيهم الموت المتلاحق، وتجعلهم يستمتعون بالتطورات الجديدة، إذ قضوا الفترة الأخيرة من سنوات الحكم السبعة في قرية صغيرة مع سكان البلاد الأصليين، وباتوا يعملون في السخرة لصالح الدولة الأمبراطورية. وفي تناوب بين الوصف والسرد يأخذنا ربيع جابر إلى جماليات جديدة يتآلف فيها وينسجم الإحساس بالاغتراب مع الدهشة بالجديد، وأدب السجون مع أدب الرحلة، ثمة عين روائية ترصد بنهج متوازٍ مع المنظار الاستشراقي ، تعيد سبر المكان الذي عاثت فيه روايات اليوناني كازانتزاكيس والألباني إسماعيل قدري، مجتمع أوربا الشرقية بتكويناته المختلفة. يعود حنا يعقوب (أوليس ربيع جابر) إلى بيته بعد رحلة عذاب وقع فيها ضحية سلبيته التي تحكيها أحداث متعاقبة يفلت فيها من الموت و السخرة والسجن، ويأتي الفرج أخيراً حين يصل إلى مقدونيا ليلحق بقافلة الحج التي توصله إلى دمشق في وصف مبهج للروائي يعوّض فيها حنا يعقوب والقارئ معاً عن الرحلة التي كلفته عشر سنوات من الشقاء والحرمان. يصل أوليس بيته البيروتي ليفاجأ أن ابنته بربارة ذات الثلاثة عشر عاماً باتت تشبه أمه التي تركها وهي في العشرين. ثمة (بينيلوبي) أيضاً تقاوم أسباب السقوط وتنجو، وهي مؤمنة أن أوليسها سيعود. دروز بلغراد محاولة روائية وإنسانية لقراءة الآخر فينا في إطار الوقت الذي ندفع فيه ثمن الخطاب الشمولي الذي فصّل البلاد والعباد على مقاس هوية واحدة.