19 سبتمبر 2025

تسجيل

ثرثرة على النيل

14 أغسطس 2012

ثرثرة على النيل عنوان لواحدة من روايات نجيب محفوظ، ويكاد هذا العنوان أن يكون وصفا لحال الساسة والسياسة في مصر، فالكلام إلى حد الثرثرة هو ما يملأ الفضاء من حولنا. وأولاد حارتنا هي أيضاً من أشهر قصص نجيب محفوظ وأكثرها إثارة للجدل، وهي محاولة لتجسيد العملية الإيمانية في شكل روائي، قد يقبل بهذا الشكل البعض أو لا يقبل به، ولكن أجمع الجميع أن من حق الكاتب أن يبدع في بحثه الفلسفي عن الإيمان وهو ما تنتهي به الرواية أيضا. والحارة في مصر لها طبائعها الخاصة، والبيوت في الحارة تطبق على عابري السبيل من ضيق عرض الحارة، وأبواب البيوت في الحارة تكاد ألا تغلق وليس فيها أسرار، وتمتد العلاقات والسلوكيات بين شهامة أولاد البلد وبين سلوكيات الكيد بين النسوة، اللاتي يحلن أرض الحارة صباح أيام الجمعة إلى بركة مياه بالتنافس فيما بينهن على إلقاء مياه الاستحمام إلى عرض الطريق، في محاولة للإعلان عن "استحمام العافية" بين الأحباب داخل هذه البيوت، الأمر الذي لا يحول دون أن ينتهي التحاب هذا إلى اشتباك داخل البيت الواحد في نفس اليوم، هكذا حال الإعلانات السياسية في مصر كما حالة مياه حمام العافية، تلقي إلى الحارة معلنة أن داخل البيت وفاق في أعلى درجات الانسجام والتحاب والمعاشرة. وبين حمامات العافية والثرثرة يجري تشكيل المشهد في مصر، وإعادة ترتيب الأوضاع بين الأطراف التي تحددت إلى الآن وبشكل حصري في جماعة الإخوان والمجلس العسكري، بينما خفت حضور الشعب أو حتى النخب التي تملأ الفضاء بثرثرة صاخبة صارت أقرب إلى الكومبارس منهم إلى الشركاء في اللعبة، وانزوت الثورة وتصدر المشهد صراع السلطة، وكررت الألسن في وصف مجموعة القرارات الأخيرة للرئيس المنتخب، تعبير الانقلاب العسكري الناعم لإعادة توفيق الأوضاع، أو الانقلاب المدني ضد المجلس العسكري لإطلاق تمكين الرئيس المنتخب من السلطة. ومما يزيد الأمر التباسا أن ما يطلق عليه الشرعية الدستورية لرئيس منتخب في حال الصراع على السلطة لا تمثل قوة مادية في الواقع إلا إذا استقطبت من داخل الجيش ذاته بعض الأطراف فيه، أو هي وصلت إلى توافق إرادي بتسوية ما بين الأطراف توصلت إليها لتحول دون صدام محتمل الحدوث. هكذا معادلة القوة، ليس للنصوص فوق الورق قيمة دون أن يعبر عنها وجود مادي في الواقع. وهذا ما استدعى الاحتمال الثاني بأنه انقلاب عسكري صامت أعيد فيه توفيق الأوضاع بما يكفل للمؤسسة العسكرية البقاء كرقم فاعل في معادلة السلطة. ولم يتوقف الأمر عند حد إقالة ــ وهذا هو التعبير الرسمي ــ طنطاوي وعنان رغم منحهما أعلى وسام في مصر، ولكن جرى تجاوز الأمر إلى إلغاء الإعلان الدستوري المكمل والذي كان يمنح حصانة كاملة لأعضاء المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة، ويتضمن موقفا من التشريع ومراقبة الميزانية وإعلان الحرب. تتابع المشهد منذ الهجوم على إحدى النقاط العسكرية في رفح واستشهاد 16 ضابطا وجنديا يبدو في نتائجه معاكسا لمعادلة القوة وأيضا الإعلام الصاخب الذي رافق الحدث. فقد تم إقالة قائد الشرطة العسكرية، وقائد الحرس الجمهوري، ومدير الأمن المركزي، على خلفية عدم تأمين حضور الرئيس المنتخب لجنازة الشهداء. وتم إقالة مدير المخابرات العامة على خلفية تصريحات له حول الحادث سواء من ناحية توافر المعلومات وعدم التعامل معها، أو من ناحية حسن النية المفرط بأنه لم يكن يتوقع أن يقتل المسلم أخاه المسلم ساعة الإفطار! ولعل هذا الرجل كانت تطارده لعنة أهل سيناء عندما تحدث عنهم وسبهم واتهمهم بالعمالة وأن إسرائيل تضربهم بالأحذية، أثناء تولية منصب محافظ شمال، ورغم هذا أتى به الرئيس السابق ليخلف عمر سليمان في قمة أهم جهاز سيادي في مصر. ثم كانت الجولات التي أنهك فيها الرئيس المنتخب المشير ورئيس الأركان. وأخيرا القرارات التي صدرت بالإقالة وتعيين مدير المخابرات الحربية وزيرا للدفاع. وفي ذات الوقت كانت هناك القرارات الصادرة عن مجلس الشورى بتعيين رؤساء تحرير الإصدارات القومية، والتي واجهة موجة احتجاج واستقالات من لجنة القرار بالمجلس. ثم موجة من المصادرة لإعلام اتهم بالتحريض على قتل الرئيس المنتخب، أو سبه والتعريض به، وأغلقت قناة فضائية تنتمي بالأساس إلى بقايا النظام السابق، وتم تقديم مذيع ورئيس تحرير صحيفة إلى النيابة بتلك التهم. بناء ينهار في تتابع سريع وكأن هناك من قرر أن ينتحر بالسم، أو هي جملة تراكمات ما بدأته لجنة البشري والتي صنعها المجلس العسكري وحالة التخبط التشريعي التي ترتبت على استفتاء مارس 2011، وقد تحولت إلى انفجار مدمر للمجلس العسكري. وإن لم يتحول في مجمله إلى شظايا، ولكن جرى التفكيك والإحلال داخل مؤسسات محورية للدولة ومن داخل المجلس ذاته وزير للدفاع كان يتولي مسؤولية المخابرات الحربية، وهي تشارك كافة الأجهزة مسؤولية القصور في المعلومات عن الهجمات التي جرت في سيناء. صمتت جماعة الإخوان على عمليات القتل والسحل والمحاكم العسكرية التي تعرض لها شباب المتظاهرين، واليوم ينهي المجلس العسكري مهمته بتسليم كل أوراق السلطة إلى الرئيس المنتخب وبالتبعية إلى جماعة الإخوان دون أن يكون هناك دستور أو حتى جمعية تأسيسية متوافق عليها، فصار الأمر سلطة مطلقة بلا قيد، وهي سلطة بالأساس تفتقد خطابا سياسيا يعبر مضمونه عن احتياج الشعب وفق رؤية واضحة ومعلنة. يبدو التحول حالة اندماج بين طرفين أدارا الفترة الانتقالية معا، الإخوان والمجلس العسكري، وليس هناك أي شاهد على غير ذلك على الإطلاق. والغريب أن من بقي من المجلس العسكري هم من تولوا الحوار السياسي لتسكين كل الأطراف وتفريغ الثورة من محتواها، وليتولى اللواء عبدالفتاح السيسي منصب وزير الدفاع وهو من تولى الحوار مع ائتلافات الثورة ونجح في تفكيكها وتحويل أغلبها إلى جماعات مصالح، ولكل ثمن. وكشفت الوقائع حالة الاهتراء التي وصلت إليها باقي التجمعات السياسية، ويبدو أن التباسا شديدا أصاب رؤيتها لحقيقة ما يجري. وكأن الأمر يعود إلى نقطة البداية، ولكن مع تعاظم في المخاطر، التي تتجاوز أعمال عنف داخلي إلى عمليات إرهابية تحت ستار ديني، لتتوافق أطراف تحمل سلاح تحت عباءة الدين تعلن سيناء إمارة محررة، مع طموحات وخطط إسرائيلية للتخلص من الكتلة البشرية الفلسطينية الضاغطة على إسرائيل بتنفيس الضغط في اتجاه سيناء، وفق مخطط تبادل الأراضي المقترح والذي نشرناه بالشرق في فبراير 2008 أي منذ أربعة أعوام. ومن سخريات القدر أن يتواكب خطابان أحدهما للمرشد السابق لجماعة الإخوان، مهدي عاكف والآخر للدكتور محمد البرادعي، والفارق بينهما فارق جذري، فمهدي عاكف يقول إن الإخوان لم يأتوا ببرنامج وطني ولكنهم جاءوا ببرنامج إسلامي، ويتحدث عن ضرورة السيطرة على مفاصل الدولة، ويبدو أن لديه حالة عشق مع الملح، والتي تعني "طز" بالتركي، وكما تهكم على الوطن من قبل عاد يتهكم على كل المحتوى الشعبي والسياسي المصري بكلمة "طز". ولكن البرادعي يدعو إلى حوار وطني ولجنة تأسيسية جديدة لوضع الدستور، واحد يدعو إلى تفكيك الوطن لصالح جماعته، والآخر يدعو إلى لحمة وطنية تسبق الشبق الإخواني إلى إقرار دستور يجري إعداده في الظلام. هل يمكن للرئيس المنتخب أن يسمع لغير جماعته؟ إلى من سيسمع، إلى البرادعي أم مهدي عاكف؟ خاصة وأنه حتى اللحظة لم يسمع لنداء الإفراج عن المحكومين بالقضاء العسكري. قد تكون التغييرات في القيادات حان وقتها، ولكن ماذا عن إلغاء رئيس الجمهورية المنتخب للإعلان الدستوري المكمل؟ هل هذا من حقه؟ أم أنه تجاوز من رئيس على دستور؟ سؤال قد يكون هو مضمون القادم من مواجهة؟ ظل البعض يعتمد على توازن ناشئ من اختلاف بين الإخوان والمجلس العسكري، والآن جرى إعلان كامل بالتوافق بينهما، ويبقى سؤال جوهري، هل هذا التوافق لصالح مصر؟ وهل هذا التوافق لحساب أمنها القومي؟ وهل الترتيبات الأخيرة هي النهائية أم أن هناك جديدا قد يرد بشأن مؤسسات أخرى في الدولة، تهدف إلى إسقاط الدولة، لصالح رؤية جماعة الإخوان. ما مدى نجاح نداءات الحشد والحشد المضاد في الأسبوع الأخير من أغسطس؟ وما مدى التزام كافة الأطراف بسلمية التظاهر خاصة وأن هناك بعض الوقائع التي جرت خلال الأيام الماضية تعلن عن عنف جديد ليس مصدره البلطجية ولكن المصدر الإخوان والألتراس، وهو أمر حتى اللحظة مازال إنذارا بالخطر المحتمل، ويجب الانتباه ألا يتحول إلى خطر حال لأنه سيفتح أبوابا لا نملك ترف الدخول عبرها إلى حرب أهلية في لحظات يتراكم فيها الخطر الخارجي إلى حد الانفجار. كل ما يجري يستدعي وجوب التئام لعناصر الثورة مع القوى الاجتماعية في المجتمع، وبدون هذا فإن رحلة الثورة من أجل "عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية" ستطول أكثر مما نتوقع أو يحتمل الشعب.