12 سبتمبر 2025
تسجيللا يزال الحديث موصولا حول الضوابط العلمية للرقي بالحوار والوصول به إلى نتائج مثمرة .وقد مر بنا ضابطان :- البعد عن مواطن الجدال المذموم:التركيز على نقاط الالتقاء، ومواضع الاتفاق:ونقف اليوم عند الضابط الثالث وهو :3-البعد عن الإساءة والتجريح:من المعلوم قطعا أن الإساءة كأصل معمول به أمر مرفوض شرعا، مرفوض خلقا ، محكوم بالفشل على من يتبانه ولا يتبناه إلا سقطة الناس وأراذلهم ، وقد جلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله : "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء".والقرآن يرفع من شأن المؤمن حتى لا ينحدر إلى سوقة الناس وأحاديثهم وما يحسنونه هم ، فهم أقدر على استجلاب مصطلحات البذاءة وأقوى على استخدامها في أي وقت ومشتقات السباب واللعان تفوق أضعاف ما عند المسلم المتدين ، والعاقل هو من يبتعد عن مثل تلك المواطن وأن يحفظ نفسه من أولائك ، ثم إن هناك أمرا آخرا لفت القرآن إليه وهو أمر بالغ الأهمية .بعض الناس يعمد إلى سب أصنامهم التي يعبدونها ، وحجته أنها لا تضر ولا تنفع ، وليست المعبود الذي يعبد ، وهو بهذا محق ، لكن غاب عنه أن هذا يعتقد فيه ويدعوه إلها ، ولهذانبه القرآن إلى ذلك فقال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُون مِنْ دُونِ اللَّهِ}.فالحديث بلغة متوازنة، لا تثير المخالف ولا تحفزه إلى الخروج عن الحوار العلمي الهادئ، أمر مطلوب شرعا، ويجد الباحث في القرآن من النماذج ما يظهر ذلك، ففي سورة (سبأ) قال تعالى مخاطبا المشركين: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} وهذا الجواب حين يقفو أثره الداعية؛ يجد فيه مع المخالف توازنا لا يثيره، فمعلوم قطعا أن أحد المختلفين -المسلم وغير المسلم-وافق الصواب، والآخر خالفه، والمسلم يعتقد أنه على الحق، لكن ذلك لا يبيح له أن يتعدى على غير المسلم، يقول الإمام الرازي في تفسير الآية"هذا إرشاد من الله لرسوله إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها، وذلك لأن أحد المتناظرين، إذا قال للآخر: هذا الذي تقوله خطأ، وأنت فيه مخطئ، يغضبه. وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر، وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض، وأما إذا قال له بأن أحدنا لا يشك في أنه مخطئ، والتمادي في الباطل قبيح، والرجوع إلى الحق أحسن الأخلاق، فنجتهد ونبصر رأينا على الخطأ ليحترز، فإنه يجتهد ذلك الخصم في النظر، ويترك التعصب، وذلك لا يوجب نقصا في المنزلة لأنه أوهم بأنه في قوله شاك. ويدل عليه قول الله تعالى لنبيه: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. مع أنه لا يشك في أنه هو الهادي وهو المهتدي، وهم الضالون والمضلون.يقول العلامة القرضاوي: "وفي قوله تعالى: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم: {وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم وقوله: {لا تسألون} {ولا نسأل} زيادة حث على النظر، وذلك لأن كل أحد إذا كان مؤاخذا بجرمه، فإذا احترز نجا ولو كان البريء يؤاخذ بالجرم لما كفى النظر.ثم قال تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} وفي هذا تأكيد على ما يوجب النظر والتفكير، فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب، فكيف إذا كان يوم عرض وحساب وثواب وعذاب".