13 سبتمبر 2025
تسجيلعلينا ألا نضع قواعد اللعبة في يد غير سياسية تتمسك بالشكل دون المضمون الدولة في أبسط تصور لها هي أرض وشعب ومنظومة قواعد وأداء وآليات، والطبيعة الجادة في أداءات الدول تدعم تطور منظومتها، وتنمو المنظومة وفق رقي العلاقات البينية بين الشعب فوق الأرض. وتجارب الدول عبر تاريخها يصنع تراكما من المعرفة والخبرة والدروس المستفادة، والتراكم الكمي هذا يتيح فرص التغيير الكيفي في حياة الأمم، مما ينتج تأثيرا إيجابيا عندما يجري التعامل معه بالعلم. وتنهار التجارب وتتزاحم الفرص الضائعة إذا دخل الهوى الخاص في التعامل مع التجارب والأزمات، حيث يقول علم إدارة الأزمات، أن أي أزمة تتضمن فرصة، وإدراك الفرص المتاحة والتعامل الهادف معها، ينتج نتائج إيجابية تضاف إلى رصيد الأمم وهي تعبر تلك الأزمات، ولكن الشرط الضروري لتحقق ذلك هو وجود الهدف ووضوحه، والتعامل العلمي مع الأزمات. المشهد في مصر الآن يقول إن هناك خليطا من الأزمات يجب بحث سببه، وتوجيه أصابع الاتهام هنا وهناك لا يعني أنه طريق الحل، بل ينحدر إلى خلق مضاعفات للأزمات قد تتجاوز قدرة المجتمع على التحمل. الناس في مصر الآن يقومون بمراجعة لما جري، تتسم المراجعة بأنها لا تستسلم لخوف أو خشية، لا تهدف إلى إقصاء أحد دون الآخر، لا تسلم لتابوهات يحظر المساس بها، الناس استعادوا الثقة في النفس، ولكنهم يملكون علامات استفهام كثيرة، وهو حقهم، وأيضا الإيجابي في هذا أن الحوارات وأن جرت في كل مكان إلا أنها تعبر عن نفسها بحركة ومواقف. ومثال على هذا دعوة ضد الانفلات الأمني نشأت في مدينه الإسماعيلية، بدأتها جمعية وليدة لحقوق الإنسان، وانتهت لتبني القوي الوطنية لهذه الدعوة، وعناصر الإيجاب في هذه الدعوة تعددت وكان أولها مشهد جلوس قيادات الكنيسة إلى جوار قيادات الجماعة السلفية وقيادات الإخوان بالإضافة إلى القوي السياسية والوطنية ومنظمات المجتمع المدني، هذا اللقاء كان أول علامة صحة أن الجميع في قارب واحد، وأن الباب مفتوحا لحوار أعمق، وأن الدعوة عندما تخلصت من "الأنا" نجحت في جمع الجميع حول قضية القضايا في المجتمع، ونجح الحوار في الاتفاق على ما هو أعلى من الحد الأدنى، فيخرج بيان مشترك بأن هناك شكوكا تحيط بالانفلات الأمني وأنه مقصود وفق منهج لإلهاء المجتمع عن قضاياه، وهي نقطة متقدمة في مواقف الأطراف، بل يخرجون إلى الشارع في وقفة واحدة تعلن موقفهم من حالة الانفلات الأمني ومن التخبط في التعامل الداخلي بوزارة الداخلية وتدعو إلى لقاء مع قيادة الجيش في مؤتمر حول الأمن، وكان رجع الصدى أن المواطنين احتضنوا هذا الهدف وصار حديث المدينة التي عانت من موجات عنف واختطاف أدت إلى معدل قتيل يوميا لمدة عشرة أيام متتالية، بينما رجال الشرطة قابعين في مكاتبهم يسوقون مبررات الغياب ويضعون أصابعهم بين شفاههم كطفل رضيع يحتاج أما تدلل وتحنو والأم تفقد الأمن وتهددها الجريمة. خرج الناس من ميدان التحرير في أعقاب خلع الرئيس مبارك، واكتشفوا بعد خروجهم أنهم خارج السلطة، وصار واجبا عليهم العودة، وتمت وقفة مليونية أطلق عليها جمعة الغضب الثانية في 27 مايو، وانتهت بإعلان أن الثورة وليست المليونيات عائدة بكل رصيدها البشري في الثامن من يوليو ولن تخرج من الميدان دون تحقيق أهدافها. وهذه الدعوة تعني أن الجميع أمامه ثلاثة أسابيع من الآن للملمة حالة التشتت في المجتمع والتباين في القرارات. عدم الاتفاق على تعريف واضح للمرحلة الانتقالية ومهامها، أدى إلى خلط الأوراق، واتجهت الأعين والرغبات إلى مانشيتات الصحف وصخب الثروات المنهوبة التي أفزعت بالأحجام التي جرى رصدها كل الأطراف حتى المغالين منهم في اتهام النظام السابق بالفساد، وعجزت عن وضعها في الإطار الصحيح بأن النهب جاء نتيجة الفساد السياسي في إدارة مقدرات مصر طوال 30 عاما، وبدلا من المحاكمة السياسية للنظام وعناصره، تم حصر التعامل بقانون الكسب غير المشروع، ويصدم المستشار هشام جنينه رئيس محكمة استئناف القاهرة الجميع بتأكيده على أن جميع إجراءات المحاكمة التي تتم للرئيس السابق وعائلته ورموز نظامه أمام جهاز الكسب غير المشروع غير دستورية ومخالفة للقانون. وأبدى جنينه تحفظه على عمل جهاز الكسب غير المشروع، وقال: لابد من إعادة النظر في هذا الجهاز من الأساس، حيث إن عمله يقوم على " قلب عبء الإثبات"، أي أنه يتعامل بمنطق المتهم مدان حتى تثبت براءته، وليس العكس كما هو معمول به في كل دول العالم. وأضيف إلى تحقيقات الكسب غير المشروع بعض التحقيقات في جرائم قتل المتظاهرين، وإن شابها أن الذين يجرى التحقيق معهم مطلقو السراح ويديرون أمن الشعب الذي قتلوا أبناءه. وفقدت المرحلة الانتقالية قيمة الحوار بين القوى الاجتماعية، وما دار من حوار وفق دعوات حكومية شمل بالأساس عناصر أغلبها من النظام السابق، تتولى صياغة أسس المستقبل بعد الثورة مما أفقد هذه الحوارات قيمتها وأسبغ القائمين عليها بشبهة التواطؤ مع النظام السابق، بالإضافة إلى كونهم دعاة المصالحة مع نظام الفساد السابق تحت دعوى جلب الأموال المهربة. وسادت المرحلة الانتقالية فزاعة الفتنة الكبرى برفض الحكم العسكري، وجاء من الطرف الآخر أن الجيش يريد تسليم الحكم لإدارة مدنية، وكلتا المقولتين تتجاوزان الوعي بطبيعة المرحلة والعلاقة بين الجيش ودوره في تأمين الثورة وانحيازه لمطالبه، أيا كانت مبررات هذا القرار التي ترددت وتنوعت، إلا أنه كان دورا حاسما وداعما لمطلب التنحي. وخرجت دعوات بائتمان الجيش على الوطن والانتباه إلى قضايا التغيير إلا أنها لم تنجح في رأب الصدع، وساعد على هذا موقف المجلس العسكري في تشكيل لجنة التعديلات الدستورية وما خرج عنها، ثم الاستفتاء الذي كان من حيث المشاركة الشعبية يوما عظيما، إلا أنه أدي إلى شق الصف إلى كتلتين. وزاد على ذلك بعض التصرفات في فض الاعتصام في التحرير أو كلية الإعلام أو المحاكمات العسكرية لعناصر من شباب ونشطاء الثورة، ولكن الأمور تبدو وكأنها ذاهبة إلى هدوء واستيعاب من الأطراف أن ما تم هو ثورة شعب وليست جماعة متمردة يجب قمعها. وتفاقم الأمر بالدعوة إلى انتخابات نيابية تسبق الدستور لملء الفراغ السياسي ليتفرغ الجيش لمهامه الرئيسية على الحدود في مواجهة أي تهديد خارجي، متناسين أن دور الجيش على الحدود يجب أن يستند بالأساس إلى جبهة داخلية متماسكة، وواجهت هذه الدعوة وجهة نظر تقول إن انتخابات نيابية تسبق وضع الدستور وقوانين مباشرة الحقوق السياسية وإقرار التطهير السياسي لعناصر النظام السابق، ستنتج مجلسا نيابيا يماثل مجلس ما قبل الثورة لطبيعة العملية الانتخابية داخل المجتمع، ودون وصاية على الشعب كما يحلو للبعض تصويرها هروبا من استحقاقات المرحلة الانتقالية، ولكن ذلك وعيا بالظروف التي تحيط بالانتخابات النيابية والعناصر المكونة لها من افرد وأموال وعصبيات وأيضا بلطجة. وزاد الزخم من حول دعوة فقهاء القانون الدستوري بأن القواعد تؤكد وجوب وضع الدستور أولا، وأن وضع الدستور ليس مهمة لجنة فنية من خبراء القانون ولكنها مهمة الشعب والقوي المجتمعية، وإلا فهو دستور خاص لفئة وليس دستور الشعب. وأدى الانفلات الأمني خلال المرحلة الانتقالية والطبيعة المهادنة في التعامل مع جهاز الشرطة الذي يمتنع عن العمل ولا يمارس مهام وظيفته ولا نقول رسالته، لأن رسوخ الرسالة الأمنية في أفراده يعني تغييرا في عقيدة التعامل مع المواطنين، ويقول البعض منهم عن قناعة بأن مهمة الشرطة الحفاظ على النظام، ويتساءلون: أي نظام نحافظ عليه؟. ويطالبون الشعب الذي مارسوا ضده صنوفا متعددة من الاضطهاد أن يعتذر لهم!. وكانت حادثة القبض على فتاة في مدينة 6 أكتوبر، والتعامل بأساليب جهاز أمن الدولة الذي تم حلة، مدعاة للشك فيما تعلنة وزارة تسيير الاعمال والشك كذلك فيما قيل إنه ميثاق عمل جهاز الأمن الوطني البديل الجديد لأمن الدولة الذي يقول بابتعاد الأمن الوطني عن التعامل مع الأنشطة السياسية الداخلية، وتحدث عن رقابة قانونيه على أعمال الجهاز. ونشأ اعتقاد أن الانفلات الأمني منهج مقصود داخل المجتمع، وأن جهاز الشرطة بهذا يمثل أداة للقوي المضادة للثورة، خاصة أن العديد من عناصره يقولون بأن الحالة الأمنية نتيجة مباشرة "لما تسمونه الثورة"!. نبدو جميعا خارجون على قانون الثورة. إن كنا ندرك أن التعريف الذي استقر عليه التاريخ الإنساني وعلم الاجتماع بأن الثورة هي علم تغيير المجتمع، فإن ما يجري في مصر لا ينتمي إلى تغيير المجتمع، ولا إلى العلم الذي يفرض أولا وضوح الأهداف للنظام الجديد والتي تتحدد باتفاق مجتمعي شامل، ويرتبط بالتخطيط وفق جداول زمنية تدرك الإمكانات المتاحة وتضعها موضع الاستخدام الأمثل، وتدرك قيمة محاكمة الفساد السياسي وتضعه في مهمة التطهير، ولا تنشغل بأي من هذا كله عن الباقي. نحن جميعا نلوك كلمة الثورة، كتابة وقولا وصراعا غير منتج، فإن لم نعد لطريق الثورة الواضح وفق قواعدها المتوارثة عبر نضالات الشعوب، فإننا لا نغتال الثورة والفرصة المتاحة فحسب، بل إننا ننتحر ونضحي بجيل استطاع أن يكسر حاجز الخوف والتردد، أو إننا سندفع الثمن باهظا من دم الشعب ومقدراته، وهو نوع من الانتحار غير المبرر. والأولى بنا أن نلتزم جميعا قانون الثورة وإلا تخدعنا أوهام كسب جزئي هنا أو هناك سينتهي حتما إلى خسارة الجميع. فلنعد إلى قانون الثورة ونتحد إرادتنا معا لمواجهة أي خارج عن الثورة واستحقاقاتها، ولنترك الكبر والعناد، وألا نضع قواعد اللعبة في يد غير سياسية تتمسك بالشكل دون المضمون، ورجال الحرب أقدر القادة على اتخاذ القرار وتعديله وفق المتغيرات والحقائق في ارض الواقع وليس منهم على الإطلاق من يمتلكه قرار سابق بعد أن تتغير الحقائق من حوله.