13 سبتمبر 2025
تسجيلثمة ثلم كبير، ثلم لا مجال لمحوه كأثر في رمال، ثلم محزوز الذاكرة بقلم رصاص، يعود كلما هبّت رياح البلاد، ويغفو كلما تماثلت بعدها للغربة، ثلم يجعلك تنسى أنهم هناك موجوعون بما هم فيه، فتجلسهم إلى جانبك وتحاسبهم واحداً واحداً، وتجلدهم واحداً واحداً، صارخاً: لماذا؟ وكيف؟ البلاد تغفو بين يدي سيدة الحرب كما قال شاعر في أمسية بعيدة، البلاد أيضاً على وشك أن تلوّح لنا، ثمة من ينتظر نشيداً، أو بكاءً، أو حلقةً في مسلسل درامي، أو عشاء أخيراً يزيّنه امتثال الشرق لشهيدهم العابر في وجوه متعددة، البلاد التي ألفناها على عيشها الخشن، وغصصها المريرة، وهنيهاتها العذبة، تمرّ السحابة كما يهذي الأعشى، يقول صديق عارف ذاق ويلات الحرب بفقد أخيه: "اللهم لا نسألك ردّ القضاء بل نسألك التعجيل فيه"، فتلك السحابة (الحمراء) تداوم في فضائنا منذ ثلاثٍ وأكثر، ولكنّنا على البعد لا نودّع بحجة أن عشبة الأمل كعشبة الخلود موجودة على الأقلّ في الأساطير.أبحث عن وداع يليق بمركب، يليق بفتاة تعلق بها شاعر أحمق، عن وداع دار سكنها عربيّ، أو وطن عيث فيه، فصار قاب قوسين من الجحيم، ولأننا نستثمر في المصائب فما أجدرنا ببكّائين على باب مقبرة، نزيّن الألم لكل فاقد وثاكل ويتيم، الوداع لغة في الانتظار، يقول خائب مثلي، ظلّ يودّع ويبكي ولا يغادر، ليس الفراق في ذاته مشكلة، بل في ذلك الموقف الذي أُتخم بكلمات تتجدد، وقصائد تبكي، ستقول تعالَ نلقي النظرة الأخيرة على الوطن، من باب أننا مشطنا سنابله بالركض حفاةً طيلة الدرب الملتوي الضيق بين القرية وسكّة الحديد، من باب أننا قفزنا كرياضيين الغدران في أيام الربيع، من باب أننا شاركنا ذئابها العواء في شتاءات متلفّعة بالبرد، نحن لم نتعلّم الانتظار جيّداً، قفزنا هكذا من عربات القطارات إلى الهواتف النقّالة، كان أجدادنا يتقنون الوداع، يعدّون للأمر عدّته؛ زوّادة الطريق، الهديّة، الكلمات المعدّة سلفاً، الكلمات التي تقال في وقتها ساعة مجيء الباص بالضبط، (التعليلة) الأخيرة. لم يكونوا معنيّين بالدوام والوظيفة وراتب الشهر، كانوا أصلب عوداً، وكانوا يودّعون جيّداً.ومع ذلك، لا أدري كيف أودّع البلاد التي شتمتها يوماً، أنا أعرف أنّ أي اعتذار لن يكفي، وأنّ أيّ "نزق" جديد سيأخذ موتانا وحرائقنا وأطلالنا إلى شاشات عرض عملاقة تمنح الفرجة مجاناً لمحبّي التسلية، ولكنّ البلاد التي ودعناها عاتبين، نتركها اليوم للغربان والبوم. قلت يوماً: "يكفي: بأنّي أخذت نصيبي من النهر قبل الجفاف، وأني رأيت الطيور، تمرّ بحزني، وتذبحه بالغناء، ويكفي: بأني "تدلّلت" جدّاً على الأصدقاءْ، قسوت عليهم، وغبتُ طويلا عن الموت، حين أتاهم، وهدّ الجدار، الذي.. كم وقفنا عليه، جميلين كالصمت، مليئين بالوقت، والحبّ، والأسئلة".والآن يا بلادي؛ ها أنا أفتح أمامك بوابةً للعتاب قبل الوداع، الأصدقاء تبعثروا في المنافي، والجدار هدمه القصف، والوقت خرج من ساعتي، ولم يبق لي غيرُ الحبّ والأسئلة.