11 سبتمبر 2025

تسجيل

الثورة المصرية ... الاختطاف والتفريط والخندقة (3)

13 نوفمبر 2012

ثورة الشعب المصري في يناير 2011 لحظة فارقة في التاريخ يندر تكرارها، لحظة أدرك فيها الشعب المصري لذاته، وحقه في الحياة، وإمكاناته وقدرة الفعل التي يستطيعه، استقرت في يقين أجيال صاعدة، تزيح من أمامها ثقافة الهزيمة والخوف. تعيش هذه الأجيال الآن معانات النضج وتجاوز العجز القديم وتبدع أساليبها الجديدة للمقاومة والبناء معا وتدفع ثمن كل هذا طواعية أو غصبا ولكن بكل رضا وبالإمساك بأهدافها كما القابض على الجمر، وتواجه عالما بقدر تسليمه بعظمة الحدث والفعل غير أنه يحاول ألا تخرج النتائج ضد مصالحه وخططه. سجلت وقائع الثورة تعبيرا خرج من بعض شباب مصر لزملائهم أثناء المواجهات، وتكرر مع أشخاص متعددة من الجنسين وبذات الصيغة وكأنه إلهام إلهي: "ارجعوا أنتم للخلف أنتم متعلمون وتقدروا تبنوا مصر، إحنا مالناش ثمن، ونقدر نواجههم"، تعبير يخشع عنده القلب ويرتجف، وصدقه العمل، وظل السؤال كيف وصل إلى عقل البسطاء المطحونين من أبناء الشعب؟ كيف استطاب التضحية بحياته ليحمي شباب وشابات من سنه، وبلا وجل ودون تردد؟ هؤلاء هم جند الثورة الحقيقيون، وصناعها، وشهداء معاركها الأولى. تصفية هؤلاء الفدائيين البسطاء كان هدف الاتفاق بين النظام السابق ثم المجلس العسكري مع جماعة الإخوان، فهل يمكن أن يضيع ثأرهم أو هدفهم، ثأر الدم لا ينسى وهدف الحياة وضرورات البقاء لا يمكن التنازل عنها دون تحقيقها. لن يضيع ثأر الدم بانقضاء الزمن، ولكن الثأر يجب ألا ينحرف بالإرادة والوعي عن هدف الثورة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. العارض الذي ألم بالثورة المصرية ليس مجرد الاستحواذ، ولكنه غياب المشروع الحلم، لأن الشعار مهما كانت عبقرية تعبيره عن الرؤية إلا أنه لا يعني إمكانية تحقيقه دون خطة العمل وتحديد مهامها بشكل واضح وقاطع. سلوك الاستحواذ على الثورة كما ظاهرة زواج الأقارب، أصاب بنية سلطة ما بعد الثورة بالتكلس وانهيار القدرة على استيعاب مفهوم التغيير باتساعه وتنوع مهامه ومقاصده، وانهار نتيجة له المناعة الذاتية لبيئة الثورة، وصار جسد النظام عرضة للأمراض التي فتحت أبواب الثورة وبررت لها، وأصبح التفريط هو منتهى حدود قدرة سلطة آلت بالاستحواذ على الثورة إلى الانقلاب عليها ومن ثم تسوق مبررات وجود وبأي ثمن ومهما كان، وتضطرب الرؤية لينفرط عقد الوطن، وتتحول الحالة الداخلية إلى صراع سلطة يغيب عنه الوعي والحالة الثورية، أو هو "صراع الحماقات" كما عبر عنه بحكمة راقية أحد مشايخ سيناء. مشروع الحلم المصري، لم يجد من يعبر عن حقيقته، في كافة الأطروحات الحالية والأفكار والسياسات، سواء بالوعي أو بالشجاعة والاستعداد لتحمل المسؤولية. اتهم محمد علي في مشروع الحلم المصري في القرن التاسع عشر أنه يسعى إلى بناء إمبراطورية أو بأن لديه أطماع إمبراطورية، واتهم جمال عبد الناصر في مشروع الحلم المصري منتصف القرن العشرين أنه أيضاً يطمع إلى بناء إمبراطورية مصرية، والحقيقة أن كلتا المحاولتين كانت بالجغرافيا تعبر ببصرها ومسؤولياتها إلى الحدود الجغرافية للمصالح والأمن المصريين، والتي تمتد من منابع النيل وبحر العرب إلى شمال البحر المتوسط وجبال طوروس ومن المحيط الأطلسي غربا إلى الخليج العربي شرقا، وحساب حدود المصالح المصرية دون هذا العمق الجغرافي هو "التفريط" في الثورة وليس التفريط هو استمرار صراع الحماقات، بل إن استمرار صراع الحماقات أدنى من التفريط. إن التفريط يتمثل في كافة المخاطر المحيطة بمصر دون موقف أو إعداد لموقف مناسب لها. إن الموقف من مياه النيل وتحويله إلى مصدر للصراع يعني أن الوعي المصري في إدارة مصالحها أدنى من وعي الملكة الفرعونية حتشبسوت والتي وصلت علاقاتها إلى الصومال بارتباط المصالح وكان ذلك منذ آلاف السنين، بل إن الكتابات الغربية عن احتمالات صراع مسلح بين مصر وإثيوبيا تكشف عن مخطط للانحراف بالمشروع المصري قبل بدايته. إن العجز عن استيعاب ارتباط وحدة الأقاليم العربية بالأمن المصري جعل مصر أداة تفتيت وليست عامل وحدة ومسؤول عنها. إن عجزنا عن إدراك مشروع الحلم المصري جعلنا نسمع خلال الأيام الماضية عن علاقة إستراتيجية تربط بين تركيا الحزب الحاكم ومصر جماعة الإخوان، وصارت العلاقات الحزبية بديلا عن علاقات الدولة وأمنها. إن التفريط يتضح في تمادي الهجوم الإسرائيلي على المياه المصرية التي تدخل في إطار جغرافيا مشروع الحلم المصري. ولعل أحد مظاهر التفريط هو صناعة التقسيم لسيناء بعد استكمال إنهاء السيادة المصرية عليها، ويجري تقسيم سيناء بين إرهاب يرفع الرايات السوداء، وحركة بيع للأراضي تحت راية الاستثمار، وقانون تمليك الأراضي هو خطوة أساسية في هذا الاتجاه، كبديل لقانون قاطع بأن أراضي سيناء لا تملك ولكن يتم منح حقوق للانتفاع بها وللمصريين فقط. إن القاعدة الأساسية لمشروع الحلم المصري هي وحدة الشعب المصري، وهنا يبرز المحور الثاني للتقسيم وبعد التقسيم على قاعدة الجغرافيا، يجري التقسيم على القاعدة الطائفية وحملات دفع المسيحيين إلى الهجرة من أماكن معيشتهم، هو تفريط في وحدة الشعب، ثم التقسيم بين أصحاب الحق في الإسلام وهم متعددو الأسماء والمناهج، وغيرهم من الكفار على حسب الموقف السياسي والانتماء الحزبي، هو أيضاً تفريط في وحدة الشعب، ومدخل آخر للتقسيم. ارتقى الفقراء من شباب مصر والذين حرموا من التعليم ومن مصدر يؤمن لهم العيش إلى مستوى النبلاء والشهداء من أجل مجتمعهم ووطنهم الذي ضن عليهم بحقوقهم، لقد ارتقوا بقولهم لرفاقهم الأوفر حظا في التعليم والعمل وتوافر أسباب الحياة: "عودوا أنتم للخلف، أنتم تقدروا تنفعوا مصر أكثر مننا، وإحنا ممكن ننفع مصر بهدم جبروت النظام بأرواحنا"، وفي الوقت ذاته تدنى موقف أسماء وشخصيات وتيارات كانت تملأ فضاء الوطن طنينا، وبقدر ما كان تفريط المستشار طارق البشري في ضرورة الدستور قبل الانتخابات، ووضع نفسه خادما لرؤية جماعة الإخوان واتفاقها مع النظام السابق حول "تعديلات دستورية" تؤدي لتداول السلطة، كان أيضاً تفريط المستشار حسام الغرياني رئيس الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، وهو واحد من قضاة تيار الاستقلال الذين توالت مواقفهم الانقلابية على الثورة، وتجسد ذلك في مقولة أطلقها "بأن ثورة 1952 نصبت على الفلاحين"!، وذلك في معرض مناقشة نسبة تمثيل العمال والفلاحين في المجالس المنتخبة. تعبير النصب عندما يخرج من قاضي دون نسبه إلى موقفه السياسي، هو حكم على موقف ثورة 1952 من القوى الاجتماعية، وأي قارئ للصحف وليس دارسا للتاريخ يدرك الموقف الاجتماعي لثورة يوليو تجاه العمال والفلاحين، وهذا يعني عدم صلاحية هذا القاضي المهنية فما بالنا بصلاحيته لرئاسة الجمعية التأسيسية للدستور، وإن أخذنا في اعتبارنا انتماء القاضي لموقف جماعة الإخوان، لأدركنا إلى أي مدى فرط هذا الرجل في ضميره المهني، فكيف بالتالي يمكن ائتمانه على رئاسة الجمعية التأسيسية لوضع دستور يعبر عن أمة وتاريخها وحاجاتها. استوعب الجندي الألباني محمد علي المشروع المصري، واستوعب البكباشي جمال عبد الناصر المشروع المصري، وهو الرجل الذي كان باشاوات ما قبل الثورة يطلقون عليه "ابن البوسطجي"، لأن والده كان موظفا بالبريد المصري، واستوعب الفقراء والضعفاء والمتسربون من التعليم من شباب مصر وأنبل شهدائها مشروع الحلم المصري وقدموا حياتهم فداء وحماية له، إمبراطوريا فليكن، تمتد حدوده بطول العالم وعرضه، هو كذلك، ويدوم زمن البناء فيه زمن الحياة فوق الأرض، هذه حقيقة المسؤولية المترتبة عليه. ولم يستوعب القضاة ورافعو الرايات السوداء حقيقة مشروع الحلم المصري، فانزووا جميعا عبيدا للمشروع الأمريكي في الشرق الأوسط الجديد والكبير وبؤرة القلب فيه إسرائيل. هذا الفارق في الاستيعاب هو ضمانة الانتصار، فملح الأرض من فقراء مصر يدركون ماذا يريدون ويدفعون ثمنه، وغيرهم يستطيب حياة العبيد وطعم الثريد فتدهسهم أقدام أسيادهم قبل أقدام الشعب. سقط الاستحواذ وسقط التفريط في مواجهة قدرة البقاء لدى الشعب المصري، فهل يفيد العبيد منطق الخندقة والرايات السوداء ووسيلة الإرهاب سبيلا للتقسيم؟.