أعظم اللصوص

فاحت رائحة أبخرة الكبريت في ذلك المكان الضيق تحت الأرض، وارتعشت بقايا النيران مع هبوب ريح حارة تسبقها رائحة عطنة، كل ما سبق لم يؤثر على هؤلاء المجتمعين الذين اسودت وجوههم كقلوبهم، بل ربما كانوا يشعرون بانتماء أكبر لهذا المكان، يزيد على انتمائهم لجنسهم البشري.كان عددهم كبيرا وتختلف طبيعة تخصصاتهم، لكنهم جميعا في نهاية الأمر لصوص، فهذا لص تخصص في سرقة الدجاج من أسطح المنازل، وهذا تخصص في سرقة المحلات التجارية، أما صاحب الكرشة فقد تخصص في سرقة المال العام! أما سبب اجتماعهم في هذا المكان فقد كان غريبا حيث دعاهم "إبليس" لهذا الحفل الشيطاني ليشربوا نخب الشر ومن ثم يقومون باختيار أعظم لص من بينهم ليكون نائبا بشريا لإبليس في مجال اللصوصية، كما ترون فعلم إدارة الجريمة قد تطور كثيرا في القرن الحادي والعشرين! بعد انتظار ليس بالقصير دلف إلى القاعة شيطان صغير ذو قرنين على رأسه، يخرج اللهب من عينيه، ودخان أزرق من منخريه، وجلس في صدرها بعد أن خيم الصمت على القاعة، خوفا ورعبا وإثارة.قال الشيطان الصغير ذو القرنين: لقد بعثني سيدي "إبليس" لأتابع معكم مسابقة "أعظم لص" وهي فرصة عظيمة لن تتاح لكم إلا مرة في عمركم القصير، فرغم الشر الذي يعربد في أعماقكم تبقون بشرا من لحم وطين، أعماركم قصيرة كهبوب الريح.انزاح الخوف تدريجيا في القاعة، بعد أن شعر اللصوص بالألفة مع الشيطان ذي القرنين، لكن حل محله الترقب للمسابقة وطبيعتها.بعد صمت مقصود امتد دقائق قال الشيطان ذو القرنين: باختصار سأشرح لكم اللعبة برمتها، اطلعنا على ملفاتكم جميعا، ولم نجد إلا ملفين ثقيلين، فقد استطاع أصحابهما أن يحولوا اللصوصية من جريمة يعاقب عليها القانون لحكاية تحكى، يرويها الآباء للأبناء بكل سرور.سكت ثم ضحك وقال: كم هم أغبياء هؤلاء البشر.أشار الشيطان ذو القرنين لأحد اللصوص وطلب منه أن ينهض ويقدم عرضا حول طبيعة ملفه، فنهض من مكانه مرتبكا وهو يقول: طوع أمرك سيدي! قال اللص: اسمي علي بابا لص شهير، كنت أعمل مع مجموعة لصوص اختلفت معهم، فتم طردي من العصابة، لكن بذكائي وحسن حظي اكتشفت المكان الذي يخبئون فيه الكنوز والأموال، فكنت أقول "افتح ياسمسم" فتنفتح لي أبواب المجد والمال.بلع ريقه ثم قال: مع الوقت استطعت التآمر على باقي العصابة، فتم قتل أكثرهم والقبض على الآخرين، وتزوجت بنت الأمير وأصبحت قصة ترويها الأجيال ومثلا يحتذى به.هنا تدخل الشيطان ذو القرنين وقال: أحسنت، ثم التفت للجمهور وتابع: ربما تبدو سرقاته عادية عند أكثركم، لكن علي بابا كما قلت آنفا يمتاز بأنه قام بتطبيع جرائم السرقة، فكل طفل عربي يعيش في طفولته حالما بأن يجد مغارة اللصوص، ولا يرى هو أو أبوه بأسا بأن يتحول إلى لص لأجل ذلك.وهنا نهض الثاني، كان اسمه أرسين لوبين، فرنسي الجنسية، وقال: أنا من تعرفونني باسم "اللص الظريف" أسرق كما يشرب أحدكم الماء، لكن القوم لا يغضبون مني، بل يضحكون ويقرؤون قصصي باهتمام نادر.ابتسم بخبث ثم قال: قلت عن نفسي إنني أمتاز بالطيبة والنبل والشهامة وإنني دمث الأخلاق، فصدقني البلهاء والحمقى، رغم أني كنت خصما لجميع رجال القانون!، كيف يكون اللص شريفا؟ الجواب ليس عندي.وهنا ضجت القاعة بالضحك والتصفيق وتدخل الشيطان ذو القرنين وقال: اختاروا الفائز يا قوم علي بابا أم أرسين لوبين! ما إن بدأ القوم بالتصويت في صناديق شفافة معدة لهذا الغرض حتى ارتجت الأرض، وتزلزلت، واندفع اللهب من بين الشقوق، وارتفع صراخ غاضب لا يعرف مصدره، قبل أن يدخل للقاعة رجل يبدو الخبث على وجهه مرسوما، وهو يقول مخاطبا الشيطان ذا القرنين: قبل أن تصدروا حكمكم استمعوا لملفي، "إبليس" نفسه وافق على دخولي السباق.صمت الجميع، وبدا الغضب واضحا على وجه الشيطان ذي القرنين لكنه غير قادر على رفض طلب سيده بأي حال من الأحوال.قال اللص الأخير، واسمه مناحيم بيجن، وابتسامة خبيثة ترتسم على شفتيه: يا أعزائي كلنا اليوم لصوص لذلك سأتكلم بصراحة مطلقة، وأرجو التكتم على ما ستسمعون.هز الجميع رؤوسهم موافقين رغم غرابة الطلب، فتنفس بيجن الصعداء، ثم بدأ يعرض ملفه الثقيل.قال بيجن: استطعنا عبر قرنين من الزمان أن نسرق تاريخ المنطقة، وأن ندعي وجودا تاريخيا من النيل إلى الفرات، ابتداء من فلسطين.بلع ريقه ثم قال: حاول علماء التاريخ والآثار أن يجدو وثيقة أو قطعة أثرية تؤكد مزاعمنا، لكنهم لم ينجحوا، مع ذلك فالجميع ابتلع الطعم، وآمن بوجودنا التاريخي رغم عدم ثبوته، ابتداء من الغرب شركائنا وانتهاء بأعدائنا العرب.ضحك بيجن مطولا، ثم قال: بل إنني صفعت السادات بأن أجدادنا من بنوا الأهرامات في مصر، شخصيا أدرك أكثر منه أن ما أقوله هراء، لكنه لم يستطع أن ينفي أو يعترض.ضحك الجميع، ونهض الشيطان ذو القرنين وقبل قدم مناحيم بيجن، وبدأ الجميع بالهتاف، بيجن بيجن أعظم لص، وارتفعت النيران وفاحت أبخرة الكبريت في كل مكان