14 سبتمبر 2025

تسجيل

اغتراب الوطن ... وعودة الروح

13 أغسطس 2013

عرف العالم العديد من ألوان الحروب التقليدية والاقتصادية والثقافية والمعرفية والنفسية، وأكثر أنواع هذه الحروب أثرا هي حرب الهوية، تلك التي تصنع أخدودا عميقا بين الوطن والإنسان، وتفتح الباب إلى حالة انفصام بين معتقدات الإنسان التي تشكل الهوية الرابطة والجامعة له مع غيره ممن يعيشون معه فوق أرض الوطن جغرافيا، ويدركون معا تاريخ حياتهم فوقها بصدق الإدراك له، ويؤمنون بدينهم كما سعوا بحثا عنه عبر التاريخ تفسيرا لمعنى الوجود والخلق، وحسبما وصلتهم رسالاته السماوية، ولا يخلطون بين الرسالة في جوهرها والتفسيرات الوضعية لها، وهذه الهوية تميز الشعوب عن بعضها بعضا، فبقدر اشتراك الشعوب بالعيش فوق الأرض، غير أن التمايز بين الشعوب واقع نشأ من تمايز مكونات الهوية ذاتها. وما كانت الحروب بألوانها رغبات بشرية مجردة، فأولى الوصايا العشر ألا تقتل، وحرمة النفس البشرية مقدسة، ولكن الحروب هي صراع مصالح أيا كانت ألوان تلك الحروب أو شرعية تلك المصالح، دفاعا عن وجود أو أطماع تنتاب العلاقات بين البشر. والحرب على الهوية الوطنية الجامعة لأمة، تسلخ الإنسان من مكوناتها، فلا أرض ينتمي إليها ولا وضوح وجلاء للمعتقدات وتتضارب صور التاريخ في رأسه وتتعدد التأويلات فيصير البشر كالزغب تتقاذفه نسمات الريح، وكلما اشتدت الريح تعاظمت حالة انعدام الوزن، فيفقد الأرض ولا يدرك انتماءه إليها، ويفقد الانتماء لمن حوله وتأخذ بعقله أوهام وخرافات لا وجود لها، أوهام وخرافات انقلبت على العقل فتنقلب على كل ما يجب إدراكه. المشهد في مصر الآن يعاني من حالة من التشرذم الاجتماعي والسياسي والديني، ولم تكتفِ كل شرذمة بانعزالها عمن حولها لا تسمع غير نفسها، ولكن كل منها أصابته حالة من الانفصام، فهي تعتقد غير ما تقول، وما تقول غير ما تفعل، ولم تعد الشراذم مرشحة للعلاج، ولكنها أصابت الوطن ذاته بحالة الاغتراب عن تاريخه وعصره ومكوناته، وصار في حاجة إلى عودة الروح. كانت البدايات مبكرة فيما نعاصره، وكما كانت الحالة في عصور الضعف في تاريخنا، عندما يمحو الفرعون اسم سابقه ويضع اسمه، المطلب محو ما سبق بفعل مادي ولكن الفعل المادي لا يمحو الذاكرة، وجل ما يمكنه هو محاولة التشويش من حولها، فيصنع شرخا في مصداقية الفرعون الجديد، ولا يملك الأخير غير الكذب والادعاء ليفرض ما يراه الفرعون الإله الجديد. ولم تستسلم الذاكرة وأبدعت إحالة التاريخ إلى حكمة شعبية هي زاد الهوية وعامل استقرارها على مر العصور، كلما ألم بالوطن خطب استعادتها، وزادت الخطوب من إبداعاتها لتزداد صلابتها، وتمكنت الهوية من الصمود أمام صنوف الغزوات الخارجية، ونجحت أن تأخذ منها ما تملكه من معرفة تخصب به إدراكها، وتدعم شخصيتها، وتصنع لنفسها إستراتيجية المصالح والنفوذ والأمن، وتحدد أدواتها. المشهد في مصر الآن عبثي لا يرقى إلى مستوى التحديات التي تحيق بالوطن، مشهد يستلزم "عودة الوعي" وبلغة الثورة يستلزم "ثورة في الثورة"، لمراجعة بديهيات الهوية الوطنية، ليعرف كل حجمه وقدره ويلزم دوره إن كان له دور في مهام وتحديات يواجهها الوطن وليس عبئا عليها.. عجزت جماعة الإخوان عن هدم الدولة، بل إن خداعها للنفس أودى بأن يكشف الشعب حقيقة مقاصدها وتحالفاتها الداخلية المتغيرة حسب ما يقتضيه هدف التمكن من السلطة، وأيا كان الثمن، وهو ما استدعى تحرك فاق التوقعات ليطيح بسلطة الإخوان، ولم يبقَ أمامها غير الاستعانة بالخارج، وأدواته، واستخدام فيالق الإرهاب الديني ليوجه ضرباته في "كعب أخيل" المتمثل في سيناء والتي تحدد أبعاد القوة فيها اتفاقات كامب ديفيد وملاحقها العسكرية، بغير اكتراث بمضمون الهوية الوطنية والاستقلال الوطني، وخرجت نداءات الاستدعاء لأمريكا والناتو، موازية لنداءات الدم في الداخل، وفرضه واقعا جديدا للعلاقة بين المصريين في كل الربوع. الحروب تستمد مسوغات شرعيتها من أهداف معلنة، شرعية، وقابلة للتحقق، وذات مصداقية تؤكدها الهوية الوطنية ومشروع الأمة للمستقبل كما تتجه إليها الوقائع، وتتناسب الأساليب والأدوات شرفا مع نبل المقاصد النهائية لها. ولكن الجزء البادي للعيان من الحرب المستعرة، ليس سوى المعارك الافتتاحية لحرب قادمة ستؤثر بالقطع على عالم أحادي القطبية الذي تتصدره عسكريا أمريكا، وإن كانت معاركه الاقتصادية لا تدور لصالحها. المعارك الافتتاحية الدائرة في مصر لا تحمل المسوغات التي تمنح الحروب شرعيتها، فهي تتحدث عن الديمقراطية، وعن الدين والإمارة الإسلامية، وتتحدث عن التعايش وعدم الإقصاء، وتتحدث عن حق التعبير السياسي والاحتكام للشعب، ولكنها معارك افتتاحية مدفوعة الثمن مقدما، حروب بالوكالة كما كان حكم الإخوان حكومة بالوكالة عمن يدفعون ويديرون ويحمون، سواء كانت أجهزة مخابرات تحت ستار حكوماتها أو أجهزة مباشرة، تخطط وترتب وتدفع وتدرب وتورد السلاح وترسل وفود الإنسانية والديمقراطية وتتحكم في إنتاج الآلة الإعلامية العالمية. ما شهدته القاهرة من وفود للوساطة ترتدي مسوح الديمقراطية والخشية على السلام في مصر، هم ذاتهم مبعوثو الشيطان سواء كانوا يعلمون أم هم موظفون لهذا. وعندما يشهد مندوبو الشيطان لجماعة أو أفراد، فلا تأخذ بألسنتهم، ولكن خذ على أيديهم. إن استباحة دم المصريين في كل محافظات مصر تحت دعاوى الشرعية، تعني بالإطلاق أن مطلب المشاركة معدوم، وأن القصد هو الإقصاء وإن كان بالقتل. إن استباحة حرمة الكنائس ومنازل المسيحيين وأرواحهم، تحمل ذات المعنى، ولعل رسل الشيطان الغربي يشرحون لدافعي الضرائب في الغرب وأمريكا كيف استباحوا الدم المصري سواء كان مسلما أو مسيحيا. إن ما يجري في سيناء هو معركة الوطن البديل للإرهاب العالمي، إنها معركة البقاء أو الفناء لهم ولأجهزتهم، هي معركة ميلاد جديد للدين والوطن والبشر. إنها معركة الوطنية والقومية معا بعد أن سقطت كل الأقنعة، وثبت كذب أولئك يدعون أنهم القيمون على الدين والإنسان. إن متطلبات تحقيق خطة المرحلة الانتقالية تتطلب تجاوز حالة يد الإرهاب المطلقة الآن تقتل البشر وتخون الوطن، وتجد أن هذا كله حق إلهي لها. الشعب يدرك حقيقة المواجهة وعمقها، وقابل بدفع الثمن، ويدفعه كل لحظة تمر به، وهو يدرك حقيقة وجود الجيش المصري وانتمائه، فهو جيش الشعب، كان الشعب دائما منشأة في مواجهة الغاصب، وكانت اللحمة بين الشعب والجيش هي ما أنتج أن مصر مقبرة للغزاة. إن لحمة الشعب والجيش يجب أن تعي درس تفريط السياسة في نتائج المواجهة، كما فرطت السياسة في نتائج حرب 1973. وما زلنا ندفع ثمنه إلى الآن. الدبلوماسية ذراع آخر للبندقية، وليست بديلا عنها. ومواجهة العدو الذي يحمل السلاح، وخلفه ترسانة أعداء الخارج ليست مهمة الدبلوماسية، ولكنها مهمة المقاتلين. الحديث عن حرمة الدم، وعن حقوق الإنسان، تبدأ من حرمة الوطن، وأمن أبنائه ومستقبلهم. إن الفجوة واسعة بين حركة الشعب والثورة وبين التعبير السياسي عنها. إن مصر لا تبحث عن ديمقراطية صماء تعجز عن أن توفي الإنسان حقه وتكتفي بلعبة الكراسي الموسيقية على السلطة. إن مبحث مصر عن نظام سياسي يعبر عن إرادة الأمة ليست صيغة معلبة تكتفي بالمظهر دون المضمون. إن مصر الثورة لم تنهِ دعائم نظام الفساد الأسبق ولم تتطهر من رؤوسه وخياراته الاقتصادية والسياسية. ومصر الثورة تحتاج أن تنتج رؤية واضحة لنظامها الاقتصادي الذي يمكنه أن يحقق التنمية والعدالة الاجتماعية، وهي ليست مهمة فرد أيا كان قدره، وهي مهمة سابقة على الدستور القادم كما ظللنا ننادي. ومصر الثورة تحتاج إعادة تخصيب الحياة السياسية داخل الوطن، وأن تتجاوز حالة التصحر والجمود أمام قيادات بلا إبداع ولا ترى سوى ذاتها سبيلا للوجود، مهما ادعت من أفكار أو انتماء للوطن. إن حوار الشعب حول النظام السياسي الذي يرغب فيه يجب أيضاً أن يسبق صياغات الدستور الفنية، إن تجاوز هذه الخطوة لن يساعد على بدايات صحيحة لمهام الثورة. إن الحديث الذي بلغ فيه التجاوز مدى لا يقبله عاقل بشأن العسكرية المصرية، لن يتوقف أو يصل إلى مرفأه دون عقد مؤتمر حول الأمن القومي وعلاقة الجيش والدولة. إن الحديث عن عسكرة الدولة بمعنى أن كافة المناصب يجرى تعيين عسكريون بها، تعني بالضرورة غياب رؤية حول البناء الوظيفي للدولة، إن التسريح المبكر للضباط هو إنقاص من قدرة القوات المسلحة ويحرمها من خبرات تراكمت، ولكن واقع المواجهة الجديد يفرض استثمار قدرات الضباط وخبراتهم في بناء جيش وطني قوي، وهو في إطار البناء الوظيفي للدولة يتطلب رؤية حول الإمكانات البشرية التي يحتاجها النظام الوظيفي للدولة، والقدرة على قياسها، والوصول بها إلى زيادة القدرة التنافسية بالتدريب. إن غياب التدريب الإداري للخريجين، يضعف من قدرة الأداء، والالتزام بمهام التدريب والإعداد ضرورة للتنمية، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لتجاوز العجز الإداري ومواجهة الفساد. إن الدخول العفوي للشعب في مواجهة الإرهاب يؤدي إلى ضياع للجهد والقدرة، إن الشعب مطالب بتكوينات "المقاومة الشعبية"، وهي تكوينات يمكنها دون السلاح أن تعيق حركة الإرهاب، وتحاصره، وتكشفه. العديد من العناوين تفرض نفسها بعيدا عن ادعاءات التسامح، وتفرض تناولها بالجدية الواجبة حتى تحقق الانتصار في حركة الثورة. الشعب رفض الجماعة السرية، تكوينا وامتدادا وتحالفات خارجية، ولم يرفض شخص الحاكم ويعزله فقط، وأي مناورة على الشعب في هذا الأمر ستفتح الباب وبحق لتكرار المثال العراقي والسوري في مصر. والذين يفاوضون الآن حول الخروج الآمن لجماعة اقترفت من الجرائم ما تجاوز الخيانة العظمى، سيعكس الاتهام على من يعدون بما لا يملكون، لمن لا يستحقون. إن إدارة المرحلة الراهنة في مصر، مطالبة بإعادة ترتيب العلاقات الخارجية لحساب الاستقلال الوطني وليس على حساب الأمن القومي أو إرادة الشعب. وليدرك الجميع أن الشعب حضر ولن ينصرف، وأن عودة الروح للإدارة والأشخاص مطلب جوهري لاستعادة الوطن من غربته.