12 سبتمبر 2025

تسجيل

الخريف والجذور

13 أبريل 2015

خريف «أم دبابيك» الوعر، خريف طيور «أبو السعن» الصاخبة، الكركي التي تهاجر، وتستقر، وتتناسل، وتلتقط الحبوب دون وجلٍ من شرك أو فخ صيد. ليس في الأرض شبر لا يرتوي أو يخضرُّ، ليست في السماء سحابة لا تضخّ أو تفرز، وليست في جسد الريف كله غدة لا تفرح أو تضخّ الفرح.هي قرية أم حراب، الخريفية الآن والجافة في المواسم الجافة، مثقوبة السماء والأرض، والتي في حاجة إلى تجوال كثيف لتُعرَف، وإلى سكنى مؤطّرة لتُهضَم، وإلى بالٍ طويلٍ جداً لتستمر السكنى المؤطرة... سكنى مؤطرة. البيوت أغلبها من صفيح وقش وخيش، وأقلها من طين رطب ومتماسك، هي بيوت الريف كله، وبيوت العاصمة التي في أحياء المسكنة، الشوارع، أزقة الوحل التي تتلهى ببلاهة الحمير، أصوات البوم، أصوات النعاج، فحيح زواحف الأرض، زواحف اللدغ، الرجال المحتشمون، والثرثارون، وناقضو الوعود، والمحافظون. النساء الكبيرات في الريف، الصغيرات في غير الريف، ورقص أرجل الغيد على صوت «نقّارة» هي طبل الأفراح المعتمد والمسيطر. كل شيء في ريف قرية أم حراب يوحي بشيء، كل ثرثرة تقود إلى ثرثرة، كل مخلوق يحيا لأنه أراد أن يحيا، الرجال يريدون، النساء يردن، والأطفال في حلمات الأثداء أيضاً يريدون.حين كان آدم نظر صغيراً، وفي كثافة إزعاج الصغار الذي يريد أن يعرف وأن يتقصى، حدّثه أبوه عن سيرة قرية أم حراب وسير منابع التنجر الأخرى التي تجاور أم حراب وتشبهها في كل شيء إلا اتساع صدرها. هناك ولد صانع الطبول، هناك زرع وحصد واغتنى وافتقر، واستلّ تلك الهجرة البعيدة إلى العاصمة «جوا جوا».– في أم حراب لم نكن نحمل همّا للقمة العيش، لم نبت أبداً جائعين، ولم نمسِ وبطوننا تقرقر. كلهم أهلنا، وكل بيت بيتنا. نحن أنجبنا الملك «برجاوي» الذي كان فارساً ومهاباً وكان سلاطين «جوا جوا» تخشاه. أنجبنا «أبو العز» قائد قوافل الحج العظيم. هل تعلم أن تمائم شريف المغنية أصلها من التنجر لكنها أنكرتنا؟ وهل تعلم أن سوق الفخاريات، هذا الذي تراه الآن أهم أسواق «جوا جوا»، أسّسه التنجر حين كانوا يتاجرون في الجلود وفرو الثعالب ولحم الخراف؟ كان سلاطين أنسابة يحكموننا بالفعل، لكنهم لم يكونوا أبداً أكثر من سلاطين نسمع عنهم ولا نراهم.ويسأل إزعاج الصغار الذي لا يهدأ:– وهل عاشت أمي أيضاً في أم حراب؟– نعم، وكانت وردة، وردة لم تتفتح، ولكن للأسف تفتّحت في غير مكانها.في تلك الأيام كوّن الصغير فلسفته عن قرية أم حراب، اعتبرها الجنة التي خرج منها نظر حبايب مندحراً، لا ليحمل رسالةً أو ليبدأ منه تكوين الخليقة كما تعلّم عن آدم في مدرسة المهاجر، ولكن ليعيش هكذا، متذكراً وكابوسياً، إلى نهاية العمر: خروج آدم كانت فيه حكمة كبيرة، ولكن لماذا خرجت؟.وكانت الرزينة حين تسأل والدها عن قرية أم حراب تسأله بتعثر اللسان البنّاتي حين يسأل أباً، لا يتردد، يقول: «قد تعودين إليها ذات يوم، ستعودين يا رزينة».