14 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ نعومة أظفارنا، وخلال رحلتنا الشاقة في الحياة التي لا تنفك تدحرجنا بين مساراتها المضطربة، وتقلبنا بين مسالكها الضارية، تلك الحياة التي جبلت على المتاعب والهموم وقلة الراحة، يصاحبنا في هذه الجولة الدنيوية، شعور الخوف، أكبر وأكثر المشاعر تأثيراً وتحكماً في دفة حياتنا، فهو الرفيق الذي لم نختره ولكنه كذلك شئنا أم أبينا. وللخوف أنواع وأسباب متعددة نتيجة التجارب التي نتعرض لها، ولعل الخوف من المستقبل هو أحد الأسباب المنتشرة بين البشر، حيث إن الإنسان يميل إلى التركيز على المستقبل أكثر من "الآن" أي من اللحظة الحاضرة، فهو يخشى دائماً شيئاً ما، يتوقع حدوثه، فالخوف الذي أعنيه هنا، هو اختلال في النفس لتوقع حدوث مكروه، أو أمر غير مرغوب فيه، وهو مسؤول عن الأمور التي تثير القلق لدى الشخص نحو أحداث معينة قد تحدث في المستقبل، فتترك الإنسان فريسة لقلقه وخوفه، ويستسلم لتوقعاته التي غالباً ما تكون سلبية، فيدمر نفسه، بالعيش بهذه المشاعر رغم عدم تأكيد حدوثها، فعلمها عند الله العليم الخبير، ففكرة ألا تعرف ما هو على وشك الوقوع مخيفة حقاً، إذ تسمح لخيالك بأن يبحر بك إلى أماكن مظلمة في عقلك! فلماذا تستشعر تلك المشاعر وتلقي بنفسك في براثنها، اترك نفسك وحياتك وما يجري فيها لعلام الغيوب، وعندما يحين وقوعها، وتتجلى لك حقيقة ظاهرة، فخذ وقتك، في الشعور بها، ولا تسرف فإن الله لا يحب المسرفين، فالإسراف حتى في المشاعر مكروه، بغض الطرف عن نوعها، لأنك وقتها ستحدث اضطراباً في توازنك، مما يؤدي إلى آثار مضادة، لا ترغب بها. وعندما تحيط نفسك بالأخبار السيئة والأفكار المزعجة فلا ترى ولا تسمع سواها، لن يبدو لك المستقبل مشرقاً، وقد تعاني من ضغوطات تفوق مقدرتك، كالخوف من مستقبل الجيل أو الأمة مثلاً، خاصة في ظل الانقسامات السياسية والأيديولوجية الحرجة. وتهديد سلامة الإنسان، وتوقع الضرر الجسماني أو النفسي أو العاطفي، سواء كان حقيقياً أم من صنع الخيال، يعد محفزا قوياً للخوف، فالخوف نوعان: خوف غريزي لضمان سلامة الإنسان وبقائه، وخوف مكتسب من البيئة والمحيط، ولقد ساهمت تلك المخاوف التي زرعت في عقولنا وتسممت بها نفوسنا إلى تقييدنا ومحاصرتنا وربما أعاقتنا عن فعل الأشياء التي نريد في الحقيقة أن نقوم بها، وبالتالي تبدأ انعكاسات هذا الخوف في السيطرة على مجرى حياتنا، فينتقل سجن المخاوف من خصوصية الفرد إلى عمومية المجتمع بأكمله، وهذا أحد التأثيرات السلبية للقنوات الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي، حين تنغمس في متابعتها والتفاعل مع ما يرد فيها من أخبار وأفكار التي لا يعلم حقيقتها إلا الله، فهي موجهة لبث الرعب والقلق في النفوس، وإلهاء العقول وتوجيهها، نحو أحداث وقضايا زائفة، تحقيقاً وتمريراً لأهداف وأجندات عظمى. إذاً يتضح لنا أن معظم مخاوفنا سلوك متعلم، فمشاعر الخوف نتاج الأفكار التي تتغذى بها عقولنا، وهذا ما تسهم به مؤسسات التعليم المبكر في حياتنا، كالأسرة والمدرسة والإعلام والمجتمع، وأضف إلى ذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت ذات تأثير خطير على نفوس النشء، والتي تسعى بشكل أو بآخر إلى زراعة الخوف في قلوب الصغار وبذلك يربى جيل كامل على الخوف والقلق اللذين يؤديان بالتبعية إلى الضعف والخنوع في المجتمعات المسلمة. تشير الأبحاث إلى ان الخوف من المجهول هو لب الخوف وجوهره، وهو أصل القلق والعصبية، فعندما تبحث في أسباب العصبية والغضب، ستجد أصول الخوف قابعة هناك، فنحن نشعر بالخوف والقلق عندما نشعر بعجزنا في التحكم في موقف ما، فنشعر بأننا مكبلون وضحايا للظروف ليس لنا حكماً عليها، وهنا يظهر الإيمان الحقيقي للإنسان وثقته واتصاله بخالقه وحسن ظنه بالله "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". ونحن كأفراد نعيش في مجتمع، فإن المشكلات الاجتماعية المتعددة وقضايا كالفساد وشؤون الأسرة، والضمان المالي، والقضايا البيئية، والعنف والصراع والفتن والحروب، والتهديدات والقضايا السياسية الإقليمية والعالمية تشكل بواعث للقلق، وعوامل للخوف، لأننا لا نستطيع السيطرة عليها، أو التدخل فيها بشكل مباشر، فالجهل مكون أساسي آخر للخوف، فنحن لا نستطيع أن نعلم ما إذا كانت هذه التهديدات التي يمتلئ بها عالمنا الصغير أو عالمنا الأكبر، ستؤذينا بشكل مباشر، أو كيف ومتى سوف تلحق الأذى بنا إننا اليوم نعيش في عالم الريبة والشك، وانتفاء اليقين، في ظل خطى العالم المتسارعة، شديدة التغيير في الثقافة والتكنولوجيا وغيرها، مما يقلل من القدرة على السيطرة على أحداثه، وعدم القدرة على التنبؤ بها، فتضع الفرد والمجتمع في حالة دفاع واستعداد مزمن. ولمواجهة جميع هذه المخاوف حري بنا أن نقف وقفة جادة لإعادة النظر في الفساد المجتمعي التربوي في تنشئة وبناء الشخصية المسلمة، ومراقبة ما نختار لها من مدخلات، حتى لا يتم تعبئتها بكثرة الأوهام وندرة الحقائق، فما يتأتى عن هذه الأوهام هي مخاوف تنام في أذهاننا وتعشعش في دهاليز مجتمعاتنا، تلك الأوهام المضللة التي تستزرع القلق والخوف في القلوب الغضة اللينة، التي تتشكل وتنمو على ما استنبتناه في عقولها ووجدانها. إن الحفاظ على بوصلة إيمانية راسخة، تتوافق مع أرواحنا ومجتمعاتنا، وماضينا وحاضرنا، تصل بنا إلى الأمان الروحي والنفسي الذي وعد الله به المؤمنون "إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"، إلى جانب ذلك فإن استنهاض الذاكرة التاريخية للمجتمع المسلم، مع إضافة أبعاد التطوير والتجديد وصناعة وتقديم النخب التي تقودها وتوطنها، لتساهم في خلق المستقبل واستبدال الواقع المر بواقع أكثر إشراقاً واطمئناناً. وأخيراً لتعلم أيها القارئ العزيز إن الخوف إذا ما تمكن من الفرد، انتقلت عدواه إلى المجتمع، ثم امتد على نطاق أمة كاملة، أودى بها إلى سجن الذل والعبودية. دمتم بود [email protected]