14 سبتمبر 2025

تسجيل

الهروب للأمام

12 نوفمبر 2013

الاكتفاء بتوصيف الحالة الراهنة في مصر والوطن العربي وتوزيع الاتهامات دون النظر وبعمق إلى ما نريد ونحدده بعيدا عن حالة الشعارات، في رؤية ومهام وآليات وقوى اجتماعية، هو هروب إلى الأمام لا يتحمله الوطن ولا يتيحه عالم اليوم. تخطى العالم بعد الحرب العالمية الثانية مراحل متعددة لكل منها طبيعة وإستراتيجيات جرت صياغتها لإدارة الوجود والبقاء لأي من أطراف الصراع، تحشد له كل القدرات والإمكانات، بل إن الصراع من أجل البقاء كان الحافز الرئيسي للتقدم والتطور الصناعي والعلمي. انتهت الحرب العالمية الثانية لتترك العالم في حالة انقسام وصراع بين طرفين، نحن خارجهما، ولا تعدو المنطقة العربية غير مستعمرات لإمبراطوريات تلفظ أنفاسها الأخيرة، ولا يحكم نظر العالم إليها غير أنها منطقة تملك منابع الطاقة التي يحتاجها التقدم، وتحيا فوق أرضها شعوب لا تملك معرفة تؤهلها لاستخدامها، لينتقل الاحتلال العسكري إلى السيطرة بالمعرفة. وورثت المنطقة بالإضافة إلى ضحالة المعرفة، الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين، لتتشتت الرؤى والجهود الوطنية بين استقلال الأوطان كمهمة مباشرة ومن ثم تحقيق حياة كريمة للشعوب بجهدها وعملها وعلمها، لترث مهمة مواجهة فرضت عليها من خارج التاريخ والقيم الإنسانية، ليصبح الدفاع عن الكيان الاستيطاني في فلسطين هو الإنسانية، ولم يقبل هذا الكيان أن يحيا داخل العباءات التي تدعمه، ولكنه وضع إستراتيجية محددة بأن بقاءه مرهون بقدرته على مواجهة كل الدول المحيطة به مجتمعة، ولم يتهاون في أعمال قانون التفوق بالقوة. صمتت مدافع الحرب العالمية الثانية لتنتقل الأطراف إلى حالة توازن تحت سياسة حافة الهاوية، وعندما اعترفت الأطراف بالرعب النووي المتبادل، دخل العالم إلى مرحلة الحرب الباردة، واتجه الصراع إلى الحرب الخفية، وخلخلة الأنظمة من الداخل في المواجهة المباشرة بينهما ولتجري ترجمة ذلك إلى سباق التسلح، وهو بالأساس سباق معرفي وعلمي يستهلك من القدرة الاقتصادية للأطراف قبل أن يضيف إليها، ومن ناحية أخرى دخل التنافس والصراع حول من ينشدون الاستقلال الوطني وثرواتهم ورؤاهم للمستقبل، وكان الفعل الغربي متقدما وجودا وتأثيرا بتاريخ يمتد إلى عصر الاستكشافات ثم بوجود يتصل بزمن الاستعمار. انتهاء زمن الحرب الباردة وسباق التسلح إلى تفكك دول المنظومة الاشتراكية، لم يكن إشعارا بإبادة هذه الدول أو هزيمة إرادة البقاء لديها، ولكنها كانت إشعارا ببدء مواجهة جديدة تستدعي رؤى وإستراتيجيات وقيادات غير تلك التي وصلت بالإنسان داخلها إلى إحساس أنه لا يحيا انتظارا لوعد العدالة والرخاء ليتحول الحلم إلى كابوس انتظارا للحظة الموت الذري حال اندلاع المواجهة. كانت المنظومة الاشتراكية أقرب إلى التفكك من خصمها في الغرب لأنها كانت تعتمد بالأساس على قدراتها الذاتية، بينما كان الغرب يسيطر على منابع الطاقة والأسواق والممرات والجرأة على الحسم بالتآمر والقتل والحرب. مازال الإنسان في الغرب يعاني من توحش النظام الرأسمالي مهما كانت سطوة آلته الدعائية، لتواجه أمريكا أزمة الرهن العقاري ثم أزمة مشروع التأمين الصحي، وتصل قيم الديمقراطية أن تتصرف أمريكا كما تتعامل الشركات المفلسة وتوقف العمل في إدارات الدولة وتمتنع عن دفع رواتب العاملين. بدت دول العالم الثالث كمن وقع بين مجموعة تروس جبارة تفتك به وهو لا يملك الفكاك منها، وكل ما يتاح له أن يلحق بقطار التبعية لأي من هذه التروس، إلحاق طفيلي لا يملك حق البقاء أو النمو. وأضيف فوق هذا القانون في منطقتنا العربية، قانونا آخر هو أمن إسرائيل. كان درس الاستقلال الوطني ومحاولات التخلص من التبعية والتنمية المستقلة يجد ضالته المرجعية في دعوة القومية العربية، والتي تستدعي نداء الوحدة. لكن من يقبل بهذا في عالم تديره مجالس إدارات الشركات العملاقة، وأصبح العرب عندهم مجرد سوق عمالة واستهلاك، ودون هذا فالعرب عبء على عالم القرن الواحد والعشرين. سيطرة معرفية على مقدرات المنطقة، واستنزاف لثرواتها، وإزكاء الصراع بين أنظمتها، وتفكيك العقيدة الدينية واستخدامها، كل ذلك كان أدوات للسيطرة على المنطقة مضافا إليها حربا نفسية تشوه كل محاولات التحرر والتنمية وبأنها هي سبب التخلف وليست محاولات لكسر سلاسل التبعية وامتلاك المقدرات الوطنية. ولأن كل هذا مجتمعا لم يضرب إرادة الشعوب في مقتل، بل كان الظلم والاستبداد وغياب الأمل عوامل تمثل المضادات الحيوية للجسم الشعبي في الأمة كلها وتحول دون فقدان الإرادة، مهما طال الصمت أو كان الثمن، فقد انتقلت المواجهة إلى تفكيك الكيانات الراغبة في التوحد، ثم الحرمان من أسباب البقاء، وتضاف إلى ذلك مصادرة المكون الثقافي والعقائدي للشعوب. إن أزمة مياه النيل وسد النهضة الإثيوبي ليست بعيدة عن تلك الحرب. والاستيلاء على مخزون البحر المتوسط من آبار الغاز والبترول يدخل في ذات الإطار. وحرب القروض والمعونات وصندوق النقد الدولي جزء من الحرب على المنطقة. والسيطرة على مصادر السلاح عصب أساسي في المواجهة. وانفصال جنوب السودان وما ينتظر دارفور، والقتل للشعوب في العراق وليبيا واليمن وسوريا، وبآلة تنظيمات جهادية ترفع شعار الدين فصل من فصول التفكيك والتفتيت. وتحويل المضمون الاجتماعي والوطني للحركة الوطنية من حق الحياة والبقاء إلى دعوات حقوق الإنسان كما تراها آلة الدعاية الغربية، وتوفير شبكة احتضان وتمويل ورعاية وتنظيم لهذه الدعوات، أفرغ الجهد الوطني من اتجاهاته الرئيسية، وجرى تقسيم المجتمع إلى فئات تتصارع ولا تتكامل، حتى أننا نجد التعامل مع الجيوش الوطنية لا يتسق وحقيقة وجودها وعلاقتها بمجتمعاتها، ولكن تجري إعادة توصيفها إلى فئة داخل المجتمع وما يترتب على ذلك من خلل يصيب مفهوم الدولة ومفهوم الأمن القومي. إن عدم استيعاب ذلك كله، والاستغراق في أن التحدي الذي نواجهه هو تحد بين مكونات المجتمع ذاته، هو غفلة يدفع ثمنها الوطن وأول خطوات الهروب من المسؤولية. صراع الإرادات داخل الوطن إن لم يملك آلية للحوار، يحمل في طياته مخاطر الحرب الأهلية، ويفتقد حقيقة أن الصراع في عالم البشر ليس صراع إبادة، ولكنه صراع تعديل شروط البقاء، وإن غاب هذا المفهوم انقلب المجتمع إلى غابة من الحيوانات وليس مجتمعا إنسانيا. تحاول الأطراف في مصر أن تحدد لأنفسها ملامح بعد أن طغى العناد والعجز والجهل المعرفي على رؤية واستيعاب الأحداث. واختلاط الملامح وتشوهها الحاد والمكابرة زاد من صعوبة اجتياز المرحلة بطريقة آمنة تحول دون المساس بالقدرة الوطنية وانهيار أمن الوطن، والذي يشترط تحققه استيعاب الأطراف لحدود الخصومة وضرورة الإقرار بحق الحياة والحفاظ على مقومات البقاء. الأطراف في مصر تكاد تتساوى في الخطأ أو الجرم وفي المسؤولية. طرف يرى أن ما جرى في يونيو 2013 انقلاب على الشرعية، والطرف الآخر يرى أنه استرداد للثورة من خاطفيها. ولكن الطرفين لم يدركا أن أيا منهما ليس التحدي الذي يواجهه الوطن وأن كلا منهما لم يعد مرشحا لعبور الأزمة. ولعل الأدعى إلى المراجعة هو الحالة التي وصلت إليها الحكومة الانتقالية، ونزوعها إلى وضع مجموعة من القوانين تضعها في مواجهة حركة المواطنين، بطرح قوانين التظاهر والرسم على الحوائط وحماية المسؤولين من المحاسبة وأخيرا قانون الإرهاب. سلسلة من القوانين كان يمكن أن توصف بالاستبدادية لو كان الوضع في المجتمع قد تجاوز مواجهة العنف والمنظمات الإرهابية في الداخل. إن أداء الحكومة القائمة يستدعي النقد بعد أن كانت تحظى بقبول نتج من تجدد الأمل بعد إزاحة نظام الإخوان. أصيبت الوزارة الانتقالية بالشلل، ولم تدرك أن البناء يحتاج كل لحظة تمر، وأن انقضاء الزمن بالعجز، ليس في صالح الوطن، بل قد يستدعي خروجا جديدا للتعبير عن الإرادة الشعبية، وهو أمر سيؤدي لأن يكون الشارع هو ساحة المواجهة، وما تجنبته مصر في 30 يونيو من اقتتال بين أطياف الشعب يصبح واقعا. التردد لا يصنع موقفا، والأيدي التي تحتاج حماية دون المحاسبة على أفعالها، أيد مرتعشة وغير مرشحة للإعداد لمستقبل الأمة. المكابرة والعناد والأسئلة الكثيرة والمتزايدة عن المستقبل دون إجابات، ودون خطاب سياسي واضح، تفتح الباب للتخمين والتوجس، ويحتل الوهم مكان المعرفة في العقل الجمعي للشعب، وتهدر عقيدة الحفاظ على الوجود والبقاء، ويكرس العنف بديل غياب الأمل، وهو ما يعود بالوطن إلى ذات الحالة قبل يونيو 2013.