18 سبتمبر 2025

تسجيل

كتابة الغموض

12 سبتمبر 2016

منذ سنوات، وأثناء قراءاتي المكثفة، التي تقلصت الآن مع الأسف، بفعل الانشغال الشديد، تعلقت بكتابات المجتمعات البدائية أو لنقل المجتمعات التي كانت تحتفظ بنقائها إلى عهد قريب، ولم تستفزها المدنية، وتعدل حيواتها وأمزجتها بعد.. قرأت روايات عن الطوارق، لكاتب أمريكي يبدو أنه مغرم بتلك الأجواء، لكني لم أحس بأنه أجاد كثيرا، هي محاولات لإقحام البداوة وتقاليدها في نصوص ليست عفوية في اعتقادي الخاص ولكن قد خطط لها بصبر. ولأن الكاتب الليبي إبراهيم الكوني، من الذين كتبوا الصحراء بحرفية، وفهم حقيقي وعميق، فقد تعلقت بكتاباته تلك الأيام، تعلقا شديدا. قرأت خريف الدرويش، والمجوس، والتبر، ونزيف الحجر وعشرات غيرها من الروايات التي كتبها إبراهيم بانتظام، وخرجت أشبه بأخوات يحملن نفس الجينات والملامح، لكن يختلفن في زمن الولادة فقط. كنت كما يبدو شغوفا باكتشاف صحراء غير التي أعرفها، وتركد في خيالي، اكتشاف ما وراء تلك التلال والكثبان، وذلك القحط الذي كنت أراه جليا في كل رحلة أعبر بها صحراء ما، راكبا قطارا أو عربة، وكنت من سكان شرق السودان حيث الصحراء ممتدة وقاحلة، لا تبدو لي فيها رائحة بشر أو حتى شجرة تتنفس. الكوني قدم لي الصحراء التي لا أعرفها حقيقة، واكتشفت أن وراء ذلك القحط الذي يبدو للعيون، حيوات كاملة تتشكل وتنمو، وأيضا تستقر في بقعة ما، برغم الرحيل الظاهري. توجد ميثلوجيا فريدة، سحرة ومتنبئون، وقراء بخت، وزعماء وتوابع وذلك المجتمع الذي تحكمه قوة التحمل، ولا يوجد فيه سكن لضعيف أو مستهلك، ولأنني لم أكن أتوقع أن أرى حبا جارفا أو عواطف تندلق عبر تلك الرمال، فقد فوجئت بوجود نساء رقيقات، يعشقن ويتغزلن ويترنمن شعرا، ورجال لهم ملامح أسطورية تتمدد في خيالات النساء. الماء له طعم آخر، الخبز المملح له طعم أسطوري، ومتابعة السحرة وهم يقرأون البخت ويستنفرون طاقتهم ليتوقعوا المطر والرياح، وفساد الأمزجة، تتبعها الكثير من الهواجس والأحلام، وحين يمرض أحد أو يموت لا تجد دعوعا تبكيه أكثر من اللازم، فقط نظرات إلى البطون المتكورة التي ربما تأتي بحياة أخرى تعوض الفقد، لتستمر رحلة اللا مكان .. إلى الأبد. مؤخرا قرأت سلطانات الرمل، للسورية لينا هويان الحسن، وهي أيضا تندرج تحت أدب الصحراء غير المكتشف، وأدهشني ذلك الكم الكبير من المعلومات الذي تحمله الرواية. هنا رصد لصحراء أخرى، بعيدة عن صحراء الكوني، لكنها تشبهها في كثير من الطقوس، وربما لو استمرت الكاتبة في نبشها لنفس المكان، لخرجت بأشياء أخرى، لا تقل أهمية عن تلك التي كتبتها.