26 سبتمبر 2025
تسجيلكان لنا خيمة يا صاح، ليست خيمة.. بل بيت شعر مثولث أو مخومس.. لا أذكر تماماً، بيت شعر بفتح الشين وبمساحة شقة واسعة، يرحل مع جدي وأغنامه في الشمال السوري الخصيب، ويوماً نزل في قرى قبيلة عنزة وكنت دون السادسة أرافق جدي في الربيع البدوي الفاتن، ندعى إلى ولائم الربيع البهيجة، وعيناي تائهتان في السقف المجدول من شعر الماعز دون أن ألتفت إلى قصعة الطعام. كان الرجال يلتهمون الثريد واللحم بنهم، وجدي يلكزني بشدة منبهاً ومغتاظاً من شرودي، وأنا سارح في بيوت الشعر السوداء.. بمضاربها التي طالما تعثرت بها وكلفني ذلك شدخاً بسيطاً في رأسي، وبالأعمدة التي تنتصب في الوسط، بالمثلثات السوداء المتناغمة مع قبة الفضاء الأزرق وخط الأفق النحاسي. كانت الخيمة قصر البدوي، تستاهل أن تغني لها سميرة توفيق (بيت الشعر يا الدوني / ع ولدكم دلوني) مشفوعة بغمزة خاطفة، تستـاهل أن ينسب إليها شاعر معاصر حبيبته ويغني "رُلى عربٌ قصورهم الخيام // ومنزلهم حماةٌ فالشآمُ". كان لنا خيمة واسعة يَدرُجها جدّي وأخوالي جيّداً عندما يعودون إلى بيتهم في القرية الفراتية ويضعون تحتها الأعمدة والأوتاد ويربطونها بالحبال. لم يرحل جدّي بعدها، ثمة عشبة سامة أتت على أغنامه، ذبحها على دفعات، وأكلنا لحماً لأيام عديدة، وأخي الأصغر قال لجدّي: "لم نشبع بعد، اذبح لنا الكبش". ولكنّ بيت الشعر ظلّ، كما ظلت بيوتٌ كثيرة لم تعد تنصب إلاّ في طقوس العزاء، صار اسمها بيوت العزاء، وحلّت محلّها الخيام التي باتت تذكرنا بفلسطين أيقونة العرب وماساتهم ومشترك آلامهم، قبل أن نقرأ خيمتي غسان كنفاني (خيمة اللاجئ – خيمة الفدائي) وقبل أن نذوق معنى الخيمة في معسكرات الجامعة التي تعلمنا فيها معنى فصيلة وسرية وكتيبة. في تلك الأيام وفي ربيعٍ خصب، تناثرت حول حقولنا خيام غريبة، كنا نذاكر لاختبارات الجامعة نمشي بين الزروع حاملين مقررات الجامعة، نعب نسيم نيسان حالمين بحياة الموظفين، يومها تشاجر أهل القرية مع الغجر كي يرحلوا، الغجري قال لهم كم تريدون نقوداً ثمن إقامتي هنا؟ فرد أحدهم إن كان عندك نقود فلماذا لا تشتري بيتا؟ يومها عرفت معنى آخر للخيمة العابرة التي تقدم اللذة مقابل المال المتدفق في مواسم القمح. كانت (الحجيات) يشكلن فضاء متعة عابرة لفلاحين علاقتهم بالمال عابرة أيضا. في عام 2008 عدت من السفر، وكان علي أن أزور بعضاً من أقاربي الذين سكنوا حوران، بعدما عمَّ الجفاف الجزيرة السورية، وفي قرية صيدا بالضبط إحدى أهم القرى التي خلدتها الثورة. كانت خيام أقاربنا متجمعة شمال القرية مسافة ألف متر تقريباً، خيام تشكلت على عجل، تؤوي أسراً صغيرة تذهب منذ الصباح في قطاف البندورة (الطماطم) والبطاطا وباقي أنواع الخضار المصدّرة إلى الخليج، وتعود مساء لتنام في خيمة كُتب عليها "هنا مكان عاملات وليس حجيّات". قبل أن يرفع السوريون شعار (الموت ولا المذلة) حالمين بحياة جديدة، يرتفع فيها منسوب الكرامة قليلاً، وقبل أن يكلفهم ذلك الرحيل المتدفق في الجهات الأربع، ليقيموا في مخيمات آمنة، عرف الذل طريقه إليها وكأن الشعار تحول إلى "المذلة ولا الموت". إلى الحد الذي باتت فيه أيقونة المخيم في النص الغائب للأزمة في سوريا فتاة في سن الزواج، وفي انتظارها شباب العرب الراغبون في المساعدة، وفي أذهانهم حسناوات باب الحارة. كتب الناقد السعودي سعيد السريحين في قراءته لقصيدة الفرزدق الشهيرة عن الذئب عن ذئبية الضيف، وكتب الناقد العراقي فاضل العزاوي في كتابه يوسف والبئر عن الوقوع في هوى الغريب، ولكنهما لم يكتبا عن ذئبية المضيف، الذي لم يفهم أن اللاجئات السوريات لسن سبايا.