11 سبتمبر 2025
تسجيلما لا يفهمه العرب أن الوجدان الجمعي الأوروبي يظل موحداً، حتى وإن بدا عليهم الاختلاف، وتكفي أمومة الملكة فكتوريا للقارة العجوز؛ كونها جدة غالب ملوك أوروبا موحداً لذلك اللاوعي. وإذا كان الجد غايته أن يمضي الحفيد في مواصلة المسار وفق ما خطه من أحلام، فإن ذلك يلخص التماهي الأوروبي مع الولايات المتحدة كونها الحفيد المرتجى امتداداً لطموحات الجينة. وعندما تقزمت الطموحات الأوروبية عالمياً، إن يكن جراء حروبهم الداخلية وأبرزها الحربين الكونيتين، أو عبر إجبار أوروبا على ترك جلَّ مستعمراتها، اعتمدوا هيمنة الحفيد (العم سام) على العالم كنسخة مطورة للسيادة القديمة. ومن هنا فإن خروج أميركا من كل حروبها العسكرية والسياسية منتصرةً يظل هدفاً غربياً مهما تكن تأثيراته السالبة على العالم كله أو أجزاء منه، وعندئذٍ تظل غالب أصوات نشطاء الغرب الرافضة لوسائل الهيمنة هي محض توزيع أدوارٍ لا شأن لها بالخيرية المحضة. وخلال مايو من العام 1915 كانت السفينة لوسيتانيا التي لقبت بالقصرالعائم على مقربةٍ من السواحل الإيرلندية قادمةً من نيويورك، وعلى متنها ما يقارب ألفي مسافر عندما مزقتها قذيفة ألمانيةٌ أودت بحياة أكثر من نصف من هم على متنها، خيم الحزن للحظةٍ خاطفةٍ لم تتجاوز المآتم، لكن أوروبا ابتسمت كلها بعد حوالي العام ونصف العام بعد أن قرر الرئيس الأميركي ودرو ويلسون دخول الحرب على خلفية الحادثة. بنهاية العام 1918 قطفت أميركا الثمرة، ومضت على ذات التنول تكسب حروبها العسكرية والسياسية، ويظل الغرب يصفق من سويداء وجدانه لحفيدٍ يصدق رؤيا الأجداد. وترمب اليوم هو سيد الغرب من يعبر عنهم حتى وإن بدا الأمر خلافاً لذلك، تتضارب تصريحاته لتعبر التحليلات العربية الفطيرة عن فرحٍ غامرٍ أبله بأنه يهرف بما لا يعرف، أو أنه متناقضٌ في حين أن السياق بمجمله هو منتج بيوتٍ استراتيجيةٍ توزع الأدوار حتى يختلط الأمر على العوالم الأخرى لاسيما عالمنا العربي، يتناول ترمب كوريا الشمالية بتصريحاتٍ حمالة أوجه ظاهرها التناقض، وهو يكرر ذات الأمر تجاه سوريا وإيران وفلسطين وكل أزمات العالم وكله محسوبٌ، وكله لتشويش المنطقة المشوشة من أساسه. وعندما استهل حملته الرئاسية بتصريحات مثيرة للجدل طمأن البعض أنفسهم بأن السيدة كلنتون في طريقها للبيت الأبيض، وأن الرجل خارج دوائر المنافسة، وعندما أعلنت النتائج سدروا في خيالهم بأنه لن يؤدي القسم ولن يدخل البيت الأبيض .. ثم أنه دخل المكتب البيضاوي فقيل أنه لن يكمل عامه .. وآفة من تأولوا ذلك أنهم لا يفرقون بين التوهم الحالم وبين رصانة التحليل السوي .. آفتهم أنهم لا يقرأون ما يكتب صمويل هنتنغنون وكيسنجر، ولا يقرأون التأريخ. وهنري كيسنجر التقاه ترمب ثلاث مراتٍ منذ دخوله البيت الأبيض، كان آخرها ما دونه في تغريدته خلال فبراير من العام الجاري وذكر فيها أنه ناقش مع المفكر التسعيني مسائل تتعلق (بكوريا الشمالية والصين والشرق الأوسط)، وطبيعي أن المرجعية هي مؤلف الأخير (World order ). لكن ما يجمع بين الرجلين قبل البيت الأبيض هو الأصول الألمانية .. وترمب نفسه يجمع بينه وبين سلفه ودرو ويلسون الأصول الأسكتلندية، ومثلهم جاء من ألمانيا البيرت إنشتاين، ومن بريطانيا استيفن هوكنغ .. هو إذن مزاج حضارة الغرب التي يرى في سيادة أميركا للعالم غاية طموحه حتى وإن جاءت تلك السيادة على حساب كل القيم التي ينافق بها الغرب. والغرب لا يلخص تنسيقه والبناء على وحدته الوجدانية اتحاد أوروبا من حيث كون الوحدة مركوزةٌ في الوعي الجمعي الغربي رغم التعدد والتنوع اللغوي والثقافي. ولكن ما بالنا نحن العرب؟؟ .. يمكنك أن تطرب أي عربيٍّ من الجزائر حتى العراق، ومن الشام حتى اليمن ببيت شعرٍ للمتنبئ .. بذكريات عمرو بن معدي كرب .. بلامية الشنفرى .. بالتمر بالسمن بالقهوة والصهوة والنخوة .. بالثقافة الواحدة وذات القيم والتقاليد .. إذن من قعد بأمةٍ تملك قيم الأمس ومقومات اليوم أن تخفق في جمع شتاتها؟ .. من المؤكد أنها ليست الشعوب ولا النخب الثقافية والفكرية، بل أن غالب النخب ظلت الفصيل المتقدم في بسط الأطر النظرية والعملية للبناء على المشترك الوجداني .. الواقع يقرر أن آفة العرب تكمن في مؤسسةٍ ولدت معطوبةً هي أدنى بكثيرٍ من عبء البناء على المشترك ومن طموحات الشعوب ومن تطلعات المفكرين ومنتجهم الفكري.