14 سبتمبر 2025
تسجيلأما الأثمد فهو كحلٌ قيل إنه يمنح الأبصار مضاءً يخترق الحجب .. والتأريخ – يا رعى الله من يسقطونه – يتكرر، وليس من عزاءٍ لمن لا يتأسى بالعبر، وعليه ألا يلومن إلا نفسه إذا (حُمَّتِ الحاجاتُ والليلُ مدلجٌ) .. والباب الموارب يقبل – في عرف الماثل – أن يصفه أحدهم بأنه نصف مغلقٍ ويصفه آخر بنصف المفتوح، تماماً كمثل كوب الماء في بطنه شيء . ومن الصلاة المكتوبة نتعلم أن السر في محل السر والجهر في محله، لكن سر المناضد السوداء لم تعد تستره الأقبية الرطبة الكتومة، ولا ليل أبي الطيب عند السرى: وكنتُ إذا يَمّمْتُ أرضاً بَعيدَةً سرَيتُ فكنْتُ السرّ واللّيلُ كاتمُهْ أما إن صح أن النابغة الذبياني هو من تعتد به غطفان، فيحق لهوازن أن تفاخر بلاحقه دريد الصمة. والذين يقدمون النابغة على غيره يحتجون بروايةٍ عن سيدنا عمر رضي الله عنه عندما التقى وفد غطفان وتساءل عن قائل أبيات شعرٍ من شعراء القبيلة. وتورد الرويات من بين ما ذكر الخليفة عمر: خطاطيف حجنٍ في حبال متينة تمد بها أيد إليك نوازع فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع والرواية تقول إن الخليفة رضي الله عنه فضَّله عندئذٍ على غيره من الشعراء . لكن غطفان هي ذاتها من ثأرت ليوم اللوى وقتلت سيد القوم عبد الله شقيق دريد الكهل . ومقتلة هوازن أرخت لإسقاط صوت العقلاء ولسيادة اللامبالاة. تجارب دريد الشاعر الفارس مع ما يقارب المائة غزوة عتَّقت إدراكه للمآلات لكنهم صمُّوا آذانهم : وَقُلتُ لِعارِضٍ وَأَصحابِ عارِضٍ وَرَهطِ بَني السَوداءِ وَالقَومُ شُهَّدي وَقُلتُ لَهُم إِنَّ الأَحاليفَ كلها مطَنِّبَةً بَينَ السِتارِ فَثَهمَدِ أَمَرتُهُمُ أَمري بِمُنعَرَجِ اللِوى فَلَم يَستَبينوا النُصحَ إِلّا ضُحى الغَدِ دريد الصمة قرأ نوايا الحلفاء (الحلائف) وحدَّث القوم أنهم اجتمعوا يمكرون، وبأن شراً مستطيراً يحاك، لكن هوازن غامت في سكرة غنائم يوم اللوى وسفهت صيحة النذير على أنها خطرفة كهلٍ تجاوزه الزمن!. وهو مؤمنٌ بأقصى طاقة الشورى أذعن الرجل لرأي الجماعة: فَلَمّا عَصَوني كُنتُ مِنهُم وَقَد أَرى غِوايَتَهُم وَأَنَّني غَيرُ مُهتَدي وَهَل أَنا إِلّا مِن غَزِيَّةَ إِن غَوَت غَوَيتُ وَإِن تَرشُد غَزيَّةُ أَرشَدِ لكنه بالخواتيم تجرع قبلهم حنظل التراخي: تَنادوا فَقالوا أَردَتِ الخَيلُ فارِساً فَقُلتُ أَعَبدُ اللَهِ ذَلِكُمُ الرَدي هوازن إذن هزأت بصيحة دريدٍ، وقبل ذلك أسقطت العبرة مما حاق بإياد . وهو بعيدٌ عن قومه تناوب لقيط بن يعمر الإيادي الأرق عندما أدرك هول ما يحاك ضدهم، والفادحة أن الناس (هناك) أبعدون عن لغة المناضد السوداء، مستغرقون في الصغائر: مالي أراكم نياماً في بلهنية وقد ترونَ شِهابَ الحرب قد سطعا ثم يمضي يتوسل أن ينصاعوا لأشراط التحسُّب: فاشفوا غليلي برأيٍ منكمُ حَسَنٍ أضحي فؤادي له ريّان قد نقعا وهو يستحث المطايا .. يحاديها أن تتعجل فتوقظ جرثومة المدافعة: يا أيها الراكب المزجي على عجلٍ نحو الجزيرة مرتاداً ومنتجعا أبلغ إياداً، وخلّل في سراتهم إني أرى الرأي إن لم أعصَ قد نفعا يا قومُ بيضتكم لا تفجعنَّ بها إني أخافُ عليها الأزلمَ الجذعا وما بين اليأس والرجاء يكفيه أن تَعلَق صيحته بذاكرة العبر إن لم تستمع إياد . لقد بذلت لكم نصحي بلا دخل فاستيقظوا إن خيرَ العلم ما نفعا هذا كتابي إليكم والنذير لكم لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا وزرقاء اليمامة رأت شجراً يسير لكن جديس سفهوا الرؤية وعدوها من خرف فانكسرت بيضتهم، وعزَّ من يجبر قوس الكسعي. هي القصة إذن؛ جديسٌ وإيادٌ وهوازن. زرقاء اليمامة ولقيطٌ ودريد.. ربما يدعي (قوقل) أنه (حُذام) عصره ينفذ لما تحت الرماد، وقد يفاخر بتجاوزه للعراف وقارئة الفنجان . لكن قوقل لم يعد من يملك حق امتياز الأثير اللامتناهي، وأحاديث الغرف العازلة للصوت – إذ ذاك - ينكشف عنها الغطاء دون الحاجة لقوقل أو العرافين أو قناني الأثمد، وكفى بتمحيص العارفين كحلاً يجلي الأبصار، وترياقاً يشحذ البصائر . وبإمكان السودان - إن نَخَبَ الدربة - أن يصيب قوقل بالبوار وهمس الطاولات بالدوار، وقد يعتزل الباعة المتجولون الأثمد إذ ليس من يتبضعه، فقط عندما لا تركن الأبصار النفاذة والبصائر المشحوذة للسطر المُسَطَّح؛ بل تبدع فعل الفراسة وتستنهض الحدس بأبعاده الثلاثية.