12 سبتمبر 2025
تسجيلأثار الدكتور عبدالله العمادي في مقالة له بعنوان "ماذا في جحر الضب لتدخلوه ؟!" مفهوم الانفتاح العقلي والكيفية الخاطئة التي يتناولها البعض في ممارسته وتطرق خلال ذلك إلى بعض مظاهر تسطيح العقول التي يلج بها المجتمع، فهي قضية خطيرة وملحة وتستوجب التصدي لها ومعالجتها، والسؤال هنا: كيف نحمي المجتمع من الممارسات الخاطئة لمدلول الانفتاح وتسطيح العقول؟ يرى بعض الشباب أن الدين والعادات والتقاليد الاجتماعية ما هي إلا أفكار بالية لا تواكب التطور الذي يشهده هذا الجيل على جميع الأصعدة، بل يرون أنها قد تعيق استمتاعهم بالحياة ورفاهيتها وتسرق بهجتها ولذتها، غير أن ما من مجتمع إلا وله عاداته وتقاليده الأصيلة التي لا يمكنه التنصل منها فهي الموروث الثقافي الجوهري والهوية المميزة التي تعبر عن خصوصية المجتمعات. يقع الحمل الأكبر في عملية توعية النشء بمفهوم الانفتاح على الأسرة وعلى الوالدين تحديداً، حيث أسهموا بشكل أو بآخر في تعميق المفهوم الخاطئ لدى النشء، وذلك من خلال الاستسلام اللامشروط لمتغيرات العصر دون وضعها في إطار يتناسب وروح الشريعة الإسلامية والعادات والتقاليد الاجتماعية. فحين تراخى بعض الوالدين عن دورهم في غرس حب الله ورسوله في نفوس الناشئة وتوعيتهم بماهية وجودهم والهدف من رحلتهم في هذه الدنيا -إذ كيف ينجح أي منا في أي شيء ما دام يجهل أول ما يتوجب عليه معرفته وهو الهدف منه ؟! فالنتيجة الحتمية لذلك هي الضياع في دياجير التيه والضلال- وبأن الله خلقهم ليعبدوه في المقام الأول واستخلفهم في الأرض لإعمارها والقيام عليها وإصلاحها إلى أن تقوم الساعة، وبأن هذا الدين هو الدين الخالد الذي يصلح لكل الأزمنة. فالقرآن دليل الإنسان في الحياة منهجاً وشرعاً ليعينه في حياته وعمله وسائر شؤونه، وحين كانت هديتهم الأولى لهم أي شيء آخر عدا القرآن الكريم مبلغ علمهم ومنتهى غايتهم فلا ملام عليهم حين تثور البراكين الملوثة الخاملة من حولهم، وحين تندس في قلوبهم ثقافة غير ثقافتهم، وحين يتنقلون بين معتقدات دخيلة مشوهة مهلكة للروح والفكر. فعندما يفتر الإيمان في القلوب يكون من السهل اختراقها فالمتربصون كثر يتحينون الفرص للوثوب والنيل منها لتوجيهها وفق ما يتناسب مع خططهم واستراتيجياتهم في انسلاخ القلب والفكر عن العقيدة، حيث يعلمون تمام العلم أن هذا الدين هو الدين الأبدي الذي يهدد مجدهم وكيانهم. فكم من الوالدين يفعل عكس ذلك؟! وكم منهم لا يدع يوما يمر إلا و يحدث أبناءه عن عظمة الخالق ويتدبر صفاته وبديع صنعه، ثم يأتي بالذكر على نبيه (صلى الله عليه وسلم) فيعرض عليهم سيرته ويبرز لهم مواقفه والهدف من رسالته ثم يبين لهم هذا الدين ومكانته السامقة الرفيعة ويعرج على كتاب الله فيبرز معانيه ودلالته بقراءة مختلفة ومنهجية بسيطة سلسة تليق بمتغيرات العصر وتتوافق مع خطرات نفوسهم واتجاه مشاعرهم، ولا تحيد عن الشرائع والأحكام فلا تسرف في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي، بينما تفسرها موضحة الحكمة والمغزى المراد منها بما يعينه على البحث والنظر فيما يشابهاها من مواقف وسياقات في حياته ويستقي منها ما يعينه على فهم المزيد من القوانين الكونية والحكم الحياتية التي تزوده بالطاقة والمخزون اللازم لتأسيس الحياة التي يتوقها؛ وهذا من شأنه أن يعزز ثقافة التركيز والتعمق والبعد عن السطحية في تناول المسائل. فالقرآن الكريم خير من يستفز العقل ويستجدي عمليات التفكير كالتحليل والتفكير الناقد والاستدلال والتركيب والاستقراء والاستنباط... الخ من العمليات العقلية. كما أن نقص السعي في التدبر وتقصي الأفكار الأدنى إلى الفطرة الإنسانية في كتاب الله بنية التعلم واستيعاب الحكمة من وراء آياته ونيل التيسير والسلام، فمن يتأمل القرآن الكريم بعين مستطلعة، متفتحة،عصرية غير تقليدية، تخرج عن أغلال الموروث تجاه فهم كتاب الله وفسحة من الفكر الواعي غير المنغلق، فسوف يجد كل ما تتوق له نفسه من قوانين وتربية وعلم وحلول تتماشى مع تطورات الإنسان في كل الأزمنة، ولهذا لم يفسر الرسول (صلى الله عليه وسلم) القرآن، بل ترك للعقل البشري المتطور عبر العصور حرية التفكير والتأويل في آياته. فقد وضع الله سبحانه وتعالى في كتابه منافذ العبور لأسرار هذا الكون كما ضمنه مفاتيح التطور والارتقاء الإنساني الذي قد تمر به البشرية، ولا يزال القرآن رغم تواتر الزمان يحمل بين آياته عددا لا نهائيا من المعلومات والحكم التي من شأنها أن تصلح حياة الإنسان فيعيش الحياة في يسر الحال واطمئنان القلب ومنتهى الاستمتاع برحلة الحياة، مع انفتاح للعقل ومواكبة التطور الذي لا يتعارض مع العقيدة إذا كانت راسخة كامنة في القلوب، وما دام الأساس ثابتا متينا صلبا فلا تهزه الأعاصير والزلازل مهما عتت وعظمت وجارت وتجبرت. ومن هنا يأتي ترسيخ وتأصيل قيمة العقيدة الإسلامية ومعاني الاعتزاز والفخر بالدين الشامل المساير لمتباينات الزمان وانتقالاته، وأننا نقوى بديننا ونهُون من دونه، فلا نقف أبدا في موقف المدافع عن دينه فهو مرتكز الحق ما دمنا نعتصم به ونلتف بردائه فما اتهاماتهم وتصوراتهم الباطلة للدين التي يبثونها من خلال أبواقهم المسمومة إلا ضربا وزعزعة في أساسات العقيدة فتتسلل إلى القلوب مشاعر الازدراء والنفور من هذا الدين ويتسرب الشقاق في النفوس المقلقلة. ثم يأتي الدور في إطناب الفكر من خلال المدرسة إذ ينبغي أولاً أن نبدأ بتوعية النشء بالتنقيب والتدقيق واستقصاء الفائدة وتكوين الرأي المبني على البحث والدراسة تجاه أي قضية أو معلومة قد تستثار أمام هذه العقول الندية الغضة، وعدم الاكتفاء بظواهر الأمور من خلال شحذ الرغبة واستنفار الفضول لعمق المعرفة والوصول إلى منتهاها ومن ثم التدبر وإعمال العقل في دلائلها واتجاهاتها ومساربها وآثارها، ثم انعكاسات ذلك على واقعهم ومدى جدواه في حياتهم وبالتالي يبدأ العقل تدريجياً باكتساب مهارة الانتقاء وفلترة الأفكار والقضايا وحلحلتها واستخلاص الناجع منها وتكييفها مع ما يتناسب مع دينه وثقافته ومجتمعه. وبالتالي يبدأ في تحقيق الحياة المتوازنة بين الدين والحياة المتطورة المعاصرة حين يكون على يقين بأن أحدهما لا يجحد الآخر ولا يبخسه حقه، إنما وجد الدين ليطوع الحياة ويسخرها لخدمة الإنسان الذي كرمه الله عز وجل ونفث فيه من روحه فكيف يفرض عليه ما يشقيه ويتعبه ويتعارض مع نواميس فطرته في التعلم والتطور واكتساب المعرفة بالطرق التي تعينه على إتمام دوره في الحياة بالشكل الذي يرضى عنه الخالق سبحانه. ثم نغلف ذلك بغلاف التمهل والتأني والتحلي بالصبر والترفق والبعد عن العجلة والسرعة التي دُمغ بها هذا الزمان فما انفكت فيه العقول تبحث عن الحلول الفورية والمعلومات الخاطفة الضحلة والتفكير الوجيز المتواضع والاختصار قدر الإمكان وتلقيم المعلومات فيما يسمى (بالسندويشات)!، كناية عن الحجم الصغير والسريع في الإعداد والهضم!، مما لا يسمح للعقل بإتمام عملياته ومراجعاته والتعمق في مآلات الأفكار فتخنع الأذهان لآفة التسطيح وتألفها وتكتفي بها فلا تتكبد المشقة في الذهاب أبعد من ذلك. وقد كرم الله الإنسان واحترم إرادته ومشاعره وفكره وفطرته فكفل له الحرية ودعاه إلى الانفتاح وروح التجديد وهذا أقصى خواص التحرر الإنساني، كما أن الله سبحانه وتعالى وفي معظم آيات الذكر الكريم يُرغب الإنسان في التعمق والتبصر مصداقاً لقوله تعالى "وفي أنفسكم أفلا تبصرون". إن نقص الوعي لدى البعض بأهمية فهم الدين وماهية الإنسان وسر وجوده ومن ثم تواتر هذا النقص وانحرافه على مر الأجيال جعل من السهل اختراقه وتشويهه لهشاشته وخواره. فالأحرى أن نعمل على زيادة الوعي بحقيقة الدين وتأجيج مشاعر الولاء والانتماء والانتصار له وتمجيده وتعظيمه في الصدور فلا تخامره المرية الخبيثة ولا الوساوس المترصدة التي تهجس في النفوس. [email protected]