12 سبتمبر 2025

تسجيل

وهم المعرفة

12 أبريل 2023

قال تعالى: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) وهم المعرفة مرض نفسي أصاب عقول الكثير منا، فأصبح أكثر الناس يتوهم أنه الأفهم والأعقل والنموذج والمثالي وورقة الأجوبة الصحيحة والمرجعية الأولى والأخيرة في جميع الأمور. قد يعيش الإنسانُ عمره بين بحارِ الكتب وعوالم المعرفة ويصل أحيانًا إلى الشك، فالعقل هو القائد الوحيد لتلك الرحلة التي بدأت عندما نبذ الإنسان الشيء الذي لا يستطيع الوصول إليه بالحس المباشر أو التخيل، وقد يصل الفرد أحيانًا إلى المعرفة التامة من وجهة نظره -هكذا يُخيل إليه- ويظن أنه قد حصل على علم واسع وكأن الله قد أرسل إليه رسولاً فعلمه من لدنه علمًا، وينسى أنّ الله قد خسف بقارون الأرض عندما قال «إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي»، فيصلُ إلى مرحلة الجهل المطلق، وعندما يرى من هو أعلم منه يبدأ بانتقاده دوماً، فواهم المعرفة يظن أنه يعرف كل شيء. الحذر من الهاوية الرغبة الجامحة في الطفو على السطح مرة أخرى، والانحياز لطائفة معينة دون إمعان النظر والتفكير في الأمور قد يودي بصاحبه إلى الهاوية، والمجتمع العربي يعاني من تلك المشكلة، فكل من قرأ عنوانا في جريدة أو تعلم شيئاً جديداً يظن أنه قادر على التحليق في جو السماء دون النظر إلى الأرض مرة أخرى، ورغبة الأشخاص في الشهرة والمكانة الاجتماعية الفارهة هي ما تقودهم إلى الوصول إلى ذلك الوهم، فكثيراً ما نرى تلك العناوين في المجلات والدوريات، شاب يحطم نظرية أينشتاين في النسبية، وآخر يضع قانوناً للجاذبية، وفي نهاية الأمر نجد أنها مجرد بعض الأحبار على ورق خفيف تأخذها الريح في مكان سحيق، ولا نسمع لهم بعد ذلك جعجعة ولا نرى لهم طحيناً. فالمجتمع يفتقر إلى العقل الناقد الذي لا يقبل كل الأمور ويحللها واحدة تلو الأخرى، وينساق فقط وراء الشهرة، فإذا حطمت نظرية أشهر عالِم سأكون معروفاً في كل الدنيا، فتطغى الأنا على الإنسان وينسى أنه ما زال على النبع لم يغترف حتى غرفة واحدة بيده، ولقد قال ابن القيم: العلم ثلاثة أشبار، من دخل الشبر الأول تكبر، ومن دخل الشبر الثاني تواضع، ومن دخل الشبر الثالث علم أنه لا يعلم. علاج وهم المعرفة وهم المعرفة من أكثر المشاكل العظمى التي تسكن المجتمع العربي، وخصوصاً بين المثقفين، فالثقافة والعلم لا يتطلبان منك الحصول على شهادة جامعية عالية، أو وضع اجتماعي في المجتمع، بل هي مفتوحة للجميع. المشكلة هنا ليست في الوهم أكثر من كونها في عدم التجرد والبحث عن أصل المعلومات، فكم منّا دخل مراحل الشك والإلحاد تحت مسمى أنني بحثت وعلمت أن الأديان أساطير ووهم، هنا تأتي متفردة التجرد التي تدعوك إلى البحث بإمعان تام لتصل إلى الحقائق، والعودة من الانسياق إلى الأوهام التي تسكن مخيلتك، فالعبرة ليست بعدد الكتب التي تقرأها أو تحتفظ بها، بقدر ما هي عملية التجرد التي تستطيع من خلالها أن تبحر في بحار جهلك التي لا يوجد لديها ساحل ترسو عليه. فوهم المعرفة من أكثر المشاكل العظمى التي تسكن المجتمع العربي، وخصوصاً بين المثقفين، فالثقافة والعلم لا يتطلبان منك الحصول على شهادة جامعية عالية، أو وضع اجتماعي في المجتمع، بل هي مفتوحة للجميع، ومن وقف على النبع شرب، فشجرة المعرفة أصولها ممتدة وفروعها في السماء، تأخذ من ثمارها بقدر ما تستطيع. كما علينا التجرد وعدم الانسياق وراء الوهم في كل شيء، فكم قتل الوهم أناساً ظنوا أن علمهم سوف يوصلهم إلى السماء، ولا تجعل عدوك بداخلك، اجعله أمام عينيك حتى تستطيع القضاء عليه، فرغبتك في معالجة وهم المعرفة الذي يسكن عقلك هي بداية طريق المعرفة، ونهاية المخاض وبداية الولادة الثانية، بل هي البداية الأولى لتجعلك تمسك بالقرطاس والقلم وتنجو من الطوفان وتركب السفينة، كي ترسو بك على جبال النجاة. كسرة أخيرة نصيحة للأمهات الفاضلات تجاه أبنائهن، قلّلن من الحلوى والمال، وأكثرن من إعداد الرجال.. فالقادم من أمر أمتنا لا يحتاج خِرافاً تُعلف وتَسمن.. بل أجساما تُبنى وقلوباً تؤمن.. علّمنهم أن الفجرَ لا يصليه في البيت إلا النساء.. وأن الأوطانَ لن يحررها المترهّلون أصحاب القصّات الغريبة، والبنطلونات الضيّقة الكسلاء.. علّمنهم أنَّ الأنفال ومحمد.. نزلتا ليُصنع منهما ألفُ ألفُ قائد.. ناديه صلاح الدين... ودلِّليه بالوقّاص... واجعليه يحبّ القعقاع، أخبريه وأفهميه وعلميه.. أنّ الذي يعيشُ لنفسه لا خير فيه.. فلولا أمُّ أيمنَ ما كان أسامة... ولولا أسماءُ ما كان ابنُ الزبير.. ولولا الخنساءُ ما كان أبناؤها الشهداءُ الأبطال.. اصنعن لنا القادة.. فقد سئمت أمتُنا أربابَ المياعة والخلاعة والبلادة.