17 سبتمبر 2025

تسجيل

من تحت الأنقاض

12 فبراير 2023

المشهد الأول بعد ثوان من الزلزال: امرأة وقع عليها الجدار وهي في طريقها لغرفة أبنائها فلم تتمكن من الوصول إليهم وها هي تئن من آلام في ظهرها وساقها وتسمع أصوات أطفالها يصرخون فزعين من هول الموقف فلا يمكنها الوصول إليهم وتتمنى لو لديها عصا سحرية يمكنها أن تسحب أبناءها لحضنها وأن يواجهوا الموت معًا عوضاً عن أن يموت كل منهم رعباً وألماً، فيمر عليها شريط حياتها منذ طفولتها البريئة وطموحها المحدود في الزواج من ابن الجيران الذي طالما أعجبت به وتمنت أن تَشيخ معه وترعى أحفادها بسلام وهدوء وسعادة رغم حياتهم البسيطة التي كانت لا تتعدى الواجبات اليومية والزيارات العائلية، تلك المرأة تنتظر الموت وصَمتَ صوت أبنائها ولا تعلم إن كان زوجها الذي كان قادماً من عمله في قرية أخرى سيصل أم ابتلعته الارض! المشهد الثاني بعد ثوان من الزلزال: رجل سحب أبناءه وزوجته ووالدته ليخرجوا من البناية التي تهتز بهم حيث تناثر الاثاث في كل مكان وتكسّر الزجاج ولم يشعروا من شدة الخوف بنزف أقدامهم التي وطأت الزجاج وبمجرد وصولهم الدرج الاخير دفع الرجل بأبنائه وزوجته ووالدته خارجاً وعاد ليساعد جاره العالق بين الركام فانهارت البناية كاملة قبل أن يتمكن من لفظ الشهادة وأخرست الحوائط المتهالكة أنفاسه ومن كان معه واختفى بين الأنقاض وتعالت صيحات أبنائه وأهله وانتحبت والدته ألماً وهي ترى ابنها يموت في لحظة أمامها عاجزة عن معانقته ولمسه لآخر مرة! المشهد الثالث بعد ثواني من الزلزال: عروس ترتب ملابسها وتحزم أمتعتها فرحة بتحولها لمنزل الزوجية بعد يومين حيث حُدد يوم زفافها، وتتخيل نفسها بفستانها الابيض وسط حشد من الاهل والأصدقاء متباهية بجمالها بين الفتيات، سعيدة بفوزها بزوجها الذي يعمل في مدينة أخرى وسيأخذها معه ليبدأوا حياتهم الزوجية معتمدين فيها على أنفسهم خاصة وأنها ستبدأ وظيفتها الجديدة كمعلمة في مدرسة للمرحلة الابتدائية فعشقها للأطفال جعلها تهوى هذه المهنة كما أنها تُخطط أن تنجب 6 أطفال ليعيشوا حولها ويساندوها في كبرها وزوجها وترى احفادها وتشرف على تعليمهم بنفسها، في لحظة سقطت الخزانة على رأسها وسال دمها على فستانها الابيض ولم يمنحها الزلزال مجالاً لتكمل احلامها ولا تودع خطيبها للمرة الاخيرة! المشهد الرابع بعد ثوان من الزلزال: طفل لم يتجاوز الرابعة من عمره، بالكاد تَعرف على وجه والدته ووالده ويتمتم بكلمات بسيطة، لم يُسجل ذكرياته مع أخوته ولا أهله ولم يتلق التعليم بل لم تَضربه أمه لأنه لم يحصل على العلامة الكاملة في امتحانه، ولم يأخذه والده معه للمسجد ولا مقر عمله لصغر سنه، كان نائماً بسلام وأمان، أغمض عينه على صورة أمه وأفاق على حطام الجدران في الظلام الدامس ورائحة الاسمنت والغبار والأموات، ينادي بهلع وخوف على أمه ولا من مجيب، يبكي وترد عليه الاحجار المتفرقة بقعقعة ( صوت الحجارة) مخيفة، ومع كل حركة تنهال على جسمه الترف الأحجار التي دمرت بيته وكسّرت العابه وخطفت منه أسرته فبقي وحيداً، يتيماً، لا يعلم ان كان سيلحق بأهله المتوفين أم أن الحياة ستكتب له عمرا جديدا وهو يتيم! صور مؤلمة وقصص لا تعد ولا تحصى لضحايا زلزال سوريا وتركيا الأشد دماراً وفتكاً، آلاف الارواح زُهقت تحت الانقاض ومن لم يمت في لحظة دمار الزلزال فإن الخوف والألم الذي تسبب به قد ينهي حياته إلا من كتب الله لهم عمراً جديداً بعد هذا الدمار، فجأة اصبح الناس الآمنون في بيوتهم بلا مأوى ضاعت منهم ممتلكاتهم ودفنت أجمل ذكرياتهم وبقوا دون هوية ولا هواية همهم البحث عن بقايا اهلهم المتوفين ليكرموهم بدفنهم على الاقل، وحتى لحظة كتابة هذا المقال مازالت فرق البحث والإنقاذ تنتشل جثث ضحايا الزلزال وتستبشر خيراً لحظة العثور على أحياء من تحت الأنقاض شاهدوا الموت بأعينهم وعاشوا لحظات الرعب والهلع وسمعوا اصوات اقاربهم وهم يأنون لحين صمت موتهم، فبأي نفسية سيعيشون! وكيف سيكملون حياتهم بعد هذه الكارثة الكونية التي لا يمكن التكهن بها ولا مقاومتها ولا التصدي لها. لا نملك إلاّ الدعاء لضحايا الزلزال من الاحياء والترحم على الشهداء ومساعدتهم بما تجود به انفسنا عبر المنصات والجهات الرسمية للتبرع والمساعدات متمنين أن يتجاوزوا هذه المحنة التي ستظل في ذاكرتهم طوال ما هم على قيد الحياة وأن يتعظ الجميع فالزلازل إنذار من الله تعالى ففي لحظة يغير الله بها حالنا ويقبض أرواحنا فلا نعيم باق ولا ظلم يستمر! روى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال ( لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج - وهو القتل- حتى يكثر فيكم المال فيفيض) لنتفكر في هذا الحديث ونقارنه بواقعنا المؤلم!! اللهم تَقبل ضحايا الزلازل شهداء عندك واشف الجرحى وأجبر كل من فقد عزيزا وغاليا، وارض عنّا ولا تعاقبنا بما فَعل السفهاء منّا!