11 سبتمبر 2025

تسجيل

ارتدادات غزة على أوروبا

11 ديسمبر 2023

وصف الحرب الوحشية الحالية على قطاع غزة باعتبارها من أهم الأحداث الفارقة في تاريخ المنطقة والعالم، وصف لا يشوبه أية تهويل. فانعكاسات وارتدادات الحرب والتي بدأت تتضح جليا على المشهدين الإقليمي والدولي، تعد انعكاسات في غاية التأثير والخطورة. والواقع الأوروبي برمته طفت فيه هذه التداعيات على السطح بسرعة البرق. المشهد السياسي الأوروبي يمكن تقسيمه إلى أربع قوى مؤثرة، النخب الحاكمة، النخب المعارضة، الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، والرأي العام الأوروبي وله تأثير ضاغط على القرار السياسي الأوروبي لا يستهان به. من خبرة التعاطي الأوروبي برمته مع المنطقة العربية والإقليمية طيلة العقود الماضية، بما في ذلك الموقف من إسرائيل وسياستها وحروبها على القطاع منذ 2008؛ كان أميل لتأييد إسرائيل وسياستها العنصرية والوحشية، حتى الرأي العام الأوروبي لم يكن يشغل باله كثيراً لما يجرى في المنطقة، جنبا إلى جنب مع انحياز إسرائيل، ونظرة سلبية لجنوب المتوسط والعرب والمسلمين غدتها وسائل الإعلام الجبارة الغربية المعادية للمسلمين. ارتدادات حرب غزة المدعومة بتصرفات إسرائيل الجنونية الوحشية على القطاع، قد طالت القوى الأربع المؤثرة في المشهد الأوروبي بصورة عنيفة غير مسبوقة. الموقف الأوروبي تجاه طوفان الأقصى وحرب غزة في البداية، لاسيما على المستوى النخبوي والمؤسسي، لم ينحرف على الموقف التقليدي المعتاد، وذلك من حيث إدانة حركة حماس ووصمها بالإرهابية، وتأييد حق إسرائيل المشروع في الدفاع عن النفس ردا على أعمال حماس الإرهابية. لكن ما لبث أن تغير هذا الموقف بشكل دراماتيكي نتيجة للعنف المفرط من قبل إسرائيل على القطاع، بل وتبعه انقسام حاد وتبدل للمواقف من جانب أطراف منحازة بصورة تامة لإسرائيل. إذ سرعان ما انقلب موقف الاتحاد الأوروبي الذى يجسده المجلس الأوروبي، من تأييد تام لإسرائيل، إلى الدعوة إلى وقف النار والإسراع في إدخال المساعدات الإنسانية للقطاع. والأخيرة على وجه الخصوص، قد أثارت خلافات حادة داخل مجلس الاتحاد الأوروبي بين مؤيد ومعارض. وفى خضم ذلك، تبدلت مواقف داعمة لإسرائيل، كفرنسا وهولندا وإيرلندا وبلجيكا، من تأييد خفيف أو لنقل حياد سلبى لإسرائيل، إلى الدعوة ونشاط دبلوماسي مكثف لوقف إطلاق النار، حيث تقدموا بمشروع قرار في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، لم يمرر، بفيتو أمريكي إنجليزي، ورفض من قبل دول أوروبية كالمجر والتشيك والنمسا. وهنا نلحظ بشدة، واحدة من أخطر وأهم ارتدادات حرب غزة على المستوى المؤسسي والنخبوي الأوروبي. فتبدل المواقف الداعمة تاريخيا لإسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وما استتبعه من انقسام حاد يقوض من فاعلية وتضامن الاتحاد الأوروبي برمته؛ إنما ينبع من حسابات واعتبارات واقعية برجماتية شديدة المنطقة. إذ بخلاف إحراج أعمال إسرائيل الوحشية التي خلفت ما يناهز 14 ألف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى وتدمير 60 % من القطاع تلك النخب أمام العالم وشعوبها؛ نرى أنها قد استوعبت تماما خطأ الانحياز المطلق الفادح لإسرائيل على حساب القضية الفلسطينية. والذى سيفضى إلى سقوط المنطقة في فوضى عارمة قد تمتد لعقود، وربما حرب إقليمية واسعة ستدمر المنطقة، وتنامى موجات الإرهاب والتطرف والهجرة إلى شمال المتوسط. واستنادا إلى ذلك، غدت تمثل غزة وفي إطار الأوسع القضية الفلسطينية، أحد أهم المحددات المؤثرة في القرار السياسي الأوروبي من الآن فصاعداً، حيث سنشهد المزيد من تبديل المواقف، والمزيد من الانقسامات، والمزيد من الارتدادات داخل التيارات الواحدة بما في ذلك تيارات اليمين المتطرف المنحازة بشكل مطلق لإسرائيل. ونجادل أن ذلك في المجمل سيكون إيجابيا على القضية الفلسطينية حيث سيتشكل تيار قوى داخل أوروبا ضاغط باتجاه حل جذري للقضية الفلسطينية. ولعل من أبرز الارتدادات لحرب غزة على المستوى النخبوي الحاكم والمعارض وعلى المستوى الشعبي أيضا، كان قد تجلى في صحوة اليسار الأوروبي وانتفاضته ضد إسرائيل. اليسار الأوروبي تقليديا منقسم بشان تأييد إسرائيل، علاوة على ضعف حضوره وتأثيره على المشهد الأوروبي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، مقابل صعود مكتسح لليمين المتطرف الأوروبي منذ 2008. ومنحت حرب غزة لليسار الأوروبي مساحة واسعة لإعادة التموضوع بقوة من جديد في المشهد السياسي الأوروبي، مدعوماً بتنامى التعاطف الشعبي الأوروبي الواسع مع غزة، ونبذه لسياسات وضربات إسرائيل الوحشية المناهضة للقانون الدولي والقيم الليبرالية الراسخة في وجدان الأوروبيين. ففي خضم الانقسام الأوروبي الحاد حول الإجراءات الملائمة والمتوازنة حول غزة دون الحيلولة لتوجيه اتهامات مباشرة لإسرائيل. حادت إسبانيا بقيادة رئيس وزرائها الاشتراكي «بيدرو سانشيز» عن هذا التوازن الأوروبي الباهت، حيث أدان سانشيز غارات إسرائيل على القطاع باعتبارها جرائم حرب تماما كالتي تقترف منة قبل روسيا في أوكرانيا. بل والأخطر من ذلك، قد طالب الأوروبيين بالاعتراف بدولة فلسطينية كاملة السيادة وأعلن عن نيته عمل ذلك من جانب واحد. إسبانيا بقيادة الاشتراكيين، ويناصرها قطاع واسع من الأحزاب الاشتراكية الأوروبية لاسيما في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وبلجيكا وغيرها، قد غدت عنصرا ضاغطا بشدة على القرار السياسي الأوروبي بشأن غزة والقضية الفلسطينية برمتها وتخفيض حدة الانحياز لإسرائيل. وأخيراً، نختم بالارتداد الملفت وهو على المستوى الرأي العام الأوروبي. دمر الغباء الإسرائيلي ما بناه لسنين عبر آلة الدعاية الجبارة من صور لنفسه كمستضعف ديمقراطي مسالم يعيش وسط محيط ديكتاتوري إرهابي كاره لإسرائيل. فمشاهد القتلى والتدمير الوحشية التي تنقلها للعالم على مدار الساعة قنوات مرموقة مثل قناة الجزيرة، قد حركت مشاعر قطاعات عريضة من الأوروبيين الميالين نحو اليمين، تجاه التعاطف مع الفلسطينيين، وكشف زيف أكاذيب الصهيونية. وعلى إثر ذلك، غدا أيضا الرأي العام الأوروبي قوة ضاغطة لا يستهان بها على صانع القرار الأوروبي والنخب الأوروبية بشأن موقفه تجاه المنطقة وإسرائيل والقضية الفلسطينية.