11 سبتمبر 2025
تسجيلهناك شيء أبحث عنه كقارئ!، بل إنَّ هناك شيء يبحث عنّي ككاتب، أنها الرواية، الرواية الرائعة، الرواية التي عندما أبدأ في قراءتها، تلتهمني، ولا تسمح لي ولو بثانية مارقة، أن أتركها، تستحوذ على تفكيري، وعلى عاطفتي، وتجعلني في ذات الوقت، أن أعيد كل حساباتي، في أمرٍ ما، في أمرٍ تمت مناقشته في تلك الرواية، في فكرة ٍ شاردة، او مقولة ٍ عابرةٍ، أو حكاية تم طرحها لشخصٍ مجهول، في قالب تقني، ينم عن قدرة فائقة لكاتبها. ففي الرواية الرائعة شيء يشبه السحر، يتعلق في طرف لسانك، فلا يكل لسانك عن ذكر تلك الرواية، كما أنها تعلق في قلبك، فعندما تستيقظ صبيحة اليوم التالي من قراءتك لتلك الرواية، تتذكر أشياء كثيرة قرأتها بين دفتيها، وتحاول جاهداً أن تستنبط ما بين السطور، ثم تبدأ بالبحث من جديد عن شيء يشبه تلك الرواية. الرواية الرائعة لا تحتاج إلى الكثير من الكلمات، أو الكثير من الورق، أنها خلاصة حبكة جميلة، وتقنية تخص كاتبها، وكأنه جوهرة التاج، ومهما حاول الناس (بعض الناس) طمس بعض الروايات الرائعة، فأننا في المقابل نجد الكثير من الادباء العقلاء يتمنون اقتنائها، ثم قراءتها، ثم البدء في الترويج لها. هذه ليست مزحة، بل انها الحقيقة الخالصة لوجه الادب، وإلا لماذا بعض الروائيين يعيشون في حاضرة الأدب، وهم غائبون منذ عقودٍ من الزمن، البعض منهم لديه أعمالاً قليلة، والبعض منهم لديه اعمالاً خفيفة، والبعض منهم لدية أفكاراً ذهبية، صبّها في رواياته، فنجدها مسطّرة بطريقة فلسفية بين دفتي تلك الرواية. الرواية الرائعة، هي التي تثبت حقيقة، تبعث دفئاً، تنفض جموداً، تحاكي واقعاً، وقد يكون الواقع أحيانا ً مريراً، ويحتاج إلى أعادة صياغة، وهذه الصياغة تكون غالبا ً بيد المثقف، المثقف الواعي المدرك لما يحيط به. فهي كالممرات الضوئية في داخل العقل البشري، وهي كالخيوط الرفيعة المضيئة في داخل النفس البشرية، وأجمل ما في تلك الأعمال أنها لم تأتي بسهولة، بل أنها أتت بشق الأنفس، فغالبا ً نجد كتابها، مناضلون ومحاربون، فلاسفة، وكذلك هم المقهورين في الأرض. وإن لم يكن الأمر كما يتخيله البعض، هي سطور تكتب، ثم تصحح، ثم تطبع، فهذا الأمر لا يكتفي بقتل الكتاب مع مرور الأيام، بل سيصل الأمر أن المبدع الذي بداخل ذلك الكاتب، ستقتله الحياة، فلا يبقى ولا كتاباته تبقى، فيغيب في الفراغ، الفراغ الذي أتى منه. ومقابل الأعمال الفاشلة والتي تعج بها الأسواق في الآونة الأخيرة، هناك أعمالاً ناجحة، أعمال كثيرة ناجحة، لا تُعد ولا تُحصى. فـ(إبراهيم وأزهار القرآن) للروائي الفرنسي إريك إيمانويل شميدت، هي رواية بسيطة تحكي حوار ذاتي بين (مومو) الصبي اليهوي والمسلم إبراهيم، ويبلغ عدد صفحات هذه الرواية فقط (62 صفحة)، ورواية (راوية الافلام) للروائي التشيلي إيرنان ريبيرا لتيلير، وفكرة هذه الرواية تحكي أن هناك فتاة صغيرة تحضر الأفلام دار سينما القرية، ثم تعود كي تسرد وقائع الافلام التي شاهدتها بطريقة عجيبة وجميلة، وهي في حدود (100 صفحة)، و(الحمامة) للروائي الألماني باتريك زوسكيند، والذي يصف فيها مقدار ذلك الرعب المدفون في نفوس البشر، بسبب القمع والاضطهاد، ويبلغ عدد صفحاتها تقريباً (110 صفحة)، و(الحب وشياطين اخرى) للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، والذي يتناول فيها قصة فتاة عضها كلبٍ مسعور، ثم نقلت للكنيسة معتقدين بذلك أنها اصيبت بمسٍ شيطاني، لتتوالى الاحداث، ويبلغ عدد صفحاتها تقريبا ً (185 صفحة)، والعجوز والبحر للروائي الأمريكي آرنست همنجواي، وتحكي تلك الرواية عن قصة ذلك العجوز الذي بقي أياماً في البحر، يصارع أسماك القرش للحفاظ على سمكته الكبيرة التي أصطادها بعد تعبٍ شديد، وفي النهاية يعود ومعه بقايا تلك السمكة التي نهشتها أسماك القرش، لتبقى كالذكرى على ذلك الشاطئ، ويبلغ عدد صفحات تلك الرواية (86 صفحة)، ورجال في الشمس للروائي الفلسطيني غسّان كنفاني، وهي نقد للسلطة الانتهازية، بأنها تقدم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، فقد كانوا ثلاثة رجال، اختبئوا في خزان مياه، ثم ماتوا فيه من لهيب الشمس، لتنتهي الرواية بسؤال تعجبي: لماذا لم يدقوا الخزان؟ عندما أحسوا بالاختناق!!، ويبلغ عدد صفحاتها (96 صفحة)، وبيت المحرمات للروائية الأمريكية أناييس نن، رواية مليئة بالدهشة والسرد اللآ منتهي، رائعة جداً، إلا أن أسمها يشي بالإباحية في الأدب، ومن وجهة نظري الخاصة، فهي رواية متفردة بكل المقاييس، حتى أنني قرأتها عدة مرات، وكأنني أريد أن أكتشفها، وفي كل مرة، أجد نفسي في متاهة أخرى، وعدد صفحاتها فقط (61 صفحة). وفي المقابل نجد أن هناك روايات ضخمة مزعجة، خالية من اللغة والأسلوب والمعنى، ومقززة ومتعبة نفسياً، وليس لها أي وقع في نفس القارئ. يقول أورويل: أن تشرع في كتابة كِتاب، هو مثل أن تخوضَ نوبةً طويلةً من الأمراض المؤلمة، صراعٍ رهيب ومرهق، فلن يتمكن المرء من أن يخوض شيئا من هذا القبيل إذا لم يكن يتحرك من قبل الشيطان، الذي لا يمكنُ للمرء أن يقاومه أو أن يفهمه.