12 سبتمبر 2025
تسجيلكان المستشفى هو أول ما يلفت نظر الغرباء في البلدة البعيدة، وكان للفت النظر هذا أسبابه العديدة، منها تلك الفخامة النسبية التي بنيت به.. بالطبع ليست فخامة مستشفيات المدن القائمة على أشكال وألوان وفلسفة هندسية، لم تسمع بها البلدة، لكن طلاءها الأبيض، ونجيلها الهزيل، وخزان الماء الذي يرتفع في غطرسة، والإضاءة المتقطعة التي يجود بها مولد محدود الإرادة يستر عورة الفقر قليلًا، كانت تعد فخامة. أيضًا وجود الطبيب في حد ذاته كان يعد فخامة، ففي ذلك الوجود يمكن أن تعثر على قميص وبنطال أنيقين، ونظارة طبية غالية الثمن، وحذاء يختلف عن أحذية البلدة التي تستعمر أرجلها «المراكيب»، وأحذية «التموت تخليه» المصنوعة من إطارات السيارات، وفي كثير من الأحيان عري الأرجل الصريح، ذلك بالإضافة إلى وجود سكن يتبع المستشفى يمكن أن يشكل فندقًا بلا نجوم, لكنه يسند حضور أولئك الغرباء، ويستضيفهم. لذلك كنا دائمًا ما نكون أول من يصافح الغرباء عند حضورهم.. وآخر من يصافحهم عند انغراسهم في سكة السفر. حين جاء «التقلاوي» إلى البلدة سار على درب لفت النظر ذلك، وفوجئنا به بكل مستلزمات سفره من تعب، وإرهاق، وحقائب، يصب في المستشفى، ثم في السكن بعد ذلك، كان من أبناء الغرب، لكن مهنته الغريبة جعلت وجوده في السفر حتميًّا، فقد كان فنيًّا جوالًا يعمل في صيانة الآلات الكاتبة «تايب رايترز».. هكذا كان ينطقها عاضًا على لحمها الإنجليزي في إصرار حتى ينزف.. كان يلاحقها في المدن البعيدة، ولا بد أن تلك المهنة كانت مربحة. كنت من المغرمين بالأسماء.. خصوصًا تلك التي تملك رائحة عجيبة، ولا تتكرر كثيرًا.. فقد أنفقت ظهيرة مشتتة وأنا ألاحق اسم الغريب، أحيله إلى مدن، وقبائل، وعائلات، ولا أجد له تربة صالحة أغرسه فيها، اسم «التقلاوي» يشبه «الدنقلاوي» والحلفاوي، و«الحلاوي»، لكنه بلا غطاء مثل تلك الأسماء، فليست ثمة قبيلة اسمها «تقل»، ولا مدينة كذلك، ولو افترضنا أنه اسم عادي مثل أي اسم.. فماذا يعني؟ أفقت على صوت الغريب يسألني.. وعندما التفت إليه رأيته يعبث بإحدى حقائبه التي لا بد أنها تحوي عدة العمل الصياني للآلات الكاتبة: - كم «تايب رايتر» عندكم في المستشفى؟ قلت وأنا أتذكر الكاتب الوحيد بالمستشفى.. العم «شيبة شيبان».. وهو منكفئ على أوراقه ومراسلاته يركلها بخطه «الهيروغليفي»، ويرسلها إلى رئاستنا الإقليمية، ليقرأها كاتبهم القديم «بشرى» دون أي تذمر: - ولا واحدة. كان الغريب كأنه لدغ، لأن يده فرت من حقيبة العدة، كما تفر من شاي حار، أخرج ورقة من جيبه، وشطب على اسم مدون في أعلاها، استطعت أن ألمحه، كان اسم المستشفى الذي دون بجانب عدد من المرافق يبدو أنها شدت الغريب وتجواله إلى تلك البلدة.. بناءً على نصيحة خاطئة. أخذته إلى سكن الأطباء، كان الغداء فقيرًا لكنه مشبع، وكان بعض العاملين في تلك المرافق التي دونها الغريب في ورقته، قد حضروا للغداء أيضًا، عثر على ضابط في الشرطة، وضابط في الجيش، ومفتش زراعي، ومفتش في الحكومات المحلية.. أراد أن يلاحق آلاتهم الكاتبة، فأخبرته أن ينتظر حتى ينتهي الغداء. كنت أخشى على شهيته من انسداد أو جلطة. عندما انتهى الغداء جاءت الخيبة الكبيرة تعدو. لم تكن توجد آلة كاتبة واحدة في البلدة كلها.. كانت الأيدي المحلية هي الـ«تايب رايترز».. تركل الورق، وتغلفه، وترسله، ولم يرد في ذهن أي مصلحة محلية أن تغير من ذلك السلوك. في الصباح التالي كان «التقلاوي» يلم عدته، وإرهاقه وحبوب تهيج القولون التي زودته بها ويرحل.. صافحناه وقلنا.. إلى لقاء.. قال كأنه يشتمنا: - لا أظن ذلك.