11 سبتمبر 2025
تسجيلبعد مرور قرابة العام والنصف على الاجتياح الروسي لأوكرانيا، لا تزال مسألة فعالية العقوبات الغربية على روسيا مثار تباين واسع. فتلك العقوبات الشديدة والشاملة التي فرضها الغرب- والتي ربما قد راهن على ردع روسيا لإنهاء هذا الغزو سريعا - لم تؤتِ ثمارها بعد. ناهيك عن ذلك، تتضارب التحليلات والتوقعات بشأن مدى تأثير تلك العقوبات على الاقتصاد الروسي، وجدوى استمرارها، وكذلك تأثيرها المستقبلي على نظام بوتين والحرب بصفة عامة. نالت مسألة العقوبات الاقتصادية الدولية خلال العقدين الماضيين مساحة واسعة من الاهتمام الأكاديمي، وتنوعت المقاربات التحليلية لدراسة هذه الظاهرة مستندة على سوابق متعددة للعقوبات الغربية تحديدا ومنها التي فرضت على جنوب أفريقيا، وكوبا، وكوريا الشمالية والعراق، وإيران. وتشابهت مستخلصات تلك المقاربات إلى حد بعيد بشأن مدى الفعالية الحقيقية لظاهرة العقوبات، والتي ستساعدنا إلى حد بعيد في فك لغز فعالية العقوبات الغربية على روسيا. المستخلص أو الحقيقة الأولى والرئيسية التي خلصت إليها تلك المقاربات كان مفادها «صعوبة تحقيق العقوبات أهدافها المتوخاة بصورة فورية في أغلب الأحيان». وهل يعني ذلك أن خيار العقوبات خيار فاشل دائما؟ ليس ذلك بالضبط، بل كل ما في الأمر أن الرهان عليها لتحقيق أهداف سريعة أو فورية وحاسمة رهان غير صائب غالبا. ويعزى ذلك إلى أسباب متعددة ومنها مهارة وقدرة النظام المستهدف بالعقوبات على الالتفاف والتحايل عليها بدعم الحلفاء، صلابة الاقتصاد المستهدف، عدم اكتراث النظام المستهدف بالتأثيرات الشديدة الناجمة على شعبه ما دامت لم تشكل تلك العقوبات تهديداً شديدا على شرعية نظامه، وأخيراً البعد الإنساني المرعى عند تفعيل العقوبات حيث غالبا ما يُتوخى تحقيق التوازن ما بين معاقبة واستهداف النظام وأفراده في حد ذاته، وما بين عدم تشديد العقوبات لدرجة معينة تتسبب في كارثة إنسانية كمنع تصدير بعض المنتجات الغذائية الرئيسية. ويعد بعد التوازن من أكبر أسباب فشل العقوبات في تحقيق أهدافها المرجوة بصورة فورية أو عدم الوصول إليها نهائيا، لاسيما التخلص من نظام شديد القمع والانغلاق والعدوانية كنظام كوريا الشمالية، ونظام صدام حسين في التسعينيات. وبإسقاط هذه الأسباب على نظام بوتين لا نحتاج إلى عصف ذهني شديد وبيانات وتخمينات مرهقة لاستبيان فشل رهان العقوبات الغربية في إيقاف عمليات روسيا العسكرية في أوكرانيا الممتدة منذ أكثر من عام بشكل فوري وحاسم. فرض الغرب على روسيا قائمة عقوبات متنوعة شملت حظر استيراد النفط والغاز، وتصدير المنتجات التكنولوجية، وتجميد أرصدة بنكية، ووقف التعامل المصرفي على نظام سويفت. ورغم تضرر الاقتصاد الروسي بالطبع، إلا أنه لم يتأثر بالدرجة التي كان يتوقعها الغرب. إذ يكفي القول في ذلك إن روسيا لا تزال تصدر النفط والغاز - المصدر الرئيسي لدخلها القومي - إلى حلفائها من أكبر المشترين خاصة الصين والهند، وبكميات كبيرة. خلاصة الأمر في تلك النقطة، أن رهان الغرب على العقوبات لإنهاء الحرب لن يتحقق غالبا في المدى القريب. وهذا يدفعنا إلى المستخلص الثاني العاكس للأول ومفاده «نجاعة العقوبات في تحقيق أهدافها أو بعض منها، أو إحداث تحرك أو تحول إيجابي في الأزمة على المدى البعيد وبشكل متدرج». استنادا إلى سوابق العقوبات الغربية، نجد أنها قد ساهمت بفضل وطأتها واستمرارها في إحداث اختراق ملموس لأزمات كبيرة لكن على المدى البعيد. فالعقوبات الأمريكية المستمرة لسنوات على إيران- على سبيل المثال - كانت من أهم أسباب دفع النظام الإيراني لإبرام الاتفاق النووي مع إدارة أوباما. وكانت كوريا الشمالية قوب قوسين من إبرام اتفاق مع إدارة ترامب للتخلي عن برنامجها النووي بفضل وطأة العقوبات. فمهما كانت صلابة النظام الاقتصادي المستهدف من العقوبات، ومهارة نظامه وشبكة تحالفاته التي تمكنه من التحايل عليها، فلن يستطيع اقتصاد هذا النظام الصمود والرسوخ بنفس الوتيرة على المدى الطويل في نظام دولي معولم وتحديات اقتصادية وأمنية وبيئية متلاحقة تضرب العالم بوتيرة مستمرة. ومن ثم، سيتفاجأ هذا النظام بين ليلة وضحاها أن شرعيته وبقاءه قد بات على المحك بفضل الاحتجاجات المستمرة، والتذمر العام حتى بين نختبه الحاكمة. وبالتالي، سيضطر غالبا إلى إحداث تحول كبير تجاه الأزمة المسببة للعقوبات لضمان بقائه في السلطة. أو قد تؤدي الاحتجاجات المستمرة وحالة التذمر العام إلى ثورة أو انقلاب عسكري لإنهاء هذا النظام. ولعل ذلك أيضا ما يراهن عليه مسؤولون وأكاديميون غربيون كثر. ويستشهدون في ذلك بظهور بوادر على التصدع البطيء التدريجي لنظام بوتين بفضل العقوبات. والتي منها بيانات من جهات مرقومة تشير إلى ركود نوعي في الاقتصاد الروسي، وحالة من الاستياء لدى الشعب الروسي من استمرار الحرب، وتململ بعض الحلفاء كالصين من استمرار الحرب، واستيراد النظام لأسلحة ليست بعالية الكفاءة من حلفائه لسد عجز فجوة التسليح. وأخيراً، تمرد قوات فاجنر الأخير العاكس لارتباك واضح وربما تذمر في أوساط النخبة العسكرية الروسية. إذن نخلص مما سبق بشأن فعالية العقوبات الغربية على روسيا، هو عدم نجاحها المطلق في إيقاف استمرار العمليات العسكرية لروسيا في أوكرانيا على المدى القريب، بل ستستمر تلك العمليات وبقوة على الأقل أكثر من عام إضافي. مقابل ذلك، هو نجاحها المؤكد في إحداث حلحلة في تلك الأزمة أو الحرب على المدى البعيد- وقد ظهرت بعض بوادر ذلك بالفعل - حال استمرارها بنفس القوة التضامنية الغربية. وهنا يجب أن نشير أن استمرار وطأة العقوبات الغربية على روسيا قد يدفع إلى السيناريو الأكثر كارثية وهو لجوء روسيا إلى السلاح النووي، وليس الحلحلة الإيجابية. لكن فيما يبدو لا خيار أمام الغرب إلا الاستمرار في العقوبات وبقوة كما كانت خياره الرئيسي إزاء روسيا النووية.