10 سبتمبر 2025

تسجيل

هل تعطي مما فقدت؟

11 يوليو 2023

دعونا نتفق أولاً أن كثيراً من تجارب الحياة أفرزت لنا مقولات وربما أمثالا بات تداولها بين الناس سبيلاً للتدليل على صدق نتائجها، ودقة انطباقها، وما زال الاقتناع بها يترّسخ كلما زادت التجارب التي تشبهها وكأنها تدلل على صدقها عبر الزمن. وفي ظني أن كل الأمثال والحكم السائرة تمتلك جزءاً من المصداقية حسب السياق التي قيلت فيه، والمفهوم الذي اُستدل بها عليه، وبما أن السياقات مختلفة، والأفهام متنوعة، والتجارب متعددة فقطعاً سيكون لكل مثل سائر بين الناس صحته وخطأه، حسب ما يتراءى لك من مفهومه. ومن بين تلك المقولات الشهيرة: (فاقد الشيء لا يُعطيه) ! وفي ظني أن هذه المقولة قد تصح في جوانب، وقد لا تستقيم في أخرى.. حسب ما يعيه المرء منها في سياقٍ معين. فكثيراً ما نشهد على تجارب إنسانية عظيمة تبيّن لنا أن فاقد الشيء كان معطياً، بل وبسخاءٍ فياّض له!، ربما لأن بعض الأشخاص يكون تعاطيهم مع الحرمان هو منحهم الكريم لما حرموا منه. فنجد مثلاً والداً رؤوماً، باذلاً العطف والرحمة التي حُرم منها في صغره لأطفاله، يبذل لهم من قلبٍ أدرك حقيقة شعور الحرمان وكابده. وفي المقابل ممكن أن نرى وجهاً آخر لصحة المقولة، ففاقد الشيء لا يُعطيه إن كان شيئاً أصيلاً في نفسه، فالشجرة لن تطرح ثمراً غير ثمرها. ففاقد حب الذات مثلاً لا يمكنه أن يمنح الحب (بمعناه الحقيقي) للآخرين، ومن تشوّه داخله بالشر والحقد وسوء الظن من الصعب أن تجد منه خيراً أو لطفاً وتعاطفاً. ومن فقد سلام قلبه وطمأنينة روحه وبات ألد الخصام لنفسه من الصعب أن يمنحك السلام، ومن يخون ذاته لا يمكنه أبداً أن يكون وفيّاً مع أحد. لذا يمكن القول إن العطاء الحق يكون من المنبع الداخلي للإنسان، من أصالة نفسه، وصدق تعامله مع ذاته الذي يُحيل كل ما يتعرّض له من الخارج (من أذى أو حاجة أو نقص) إلى خيرٍ فيّاض يمنحه لنفسه ولغيره. فالرهان ليس على ما فقده، وإنما من أين فقده، فليس الفقد هو ما خسره من الظروف وما أضاع من الناس الآخرين، فهي ظروف وأحوال متغيّرة، وصروف متبدّلة وإنما الفقد الحقيقي هو ما فقده من طوّية نفسه، وما ضيّعه من خبيئة قلبه وعقله، ونقاء فطرته، وما تبدد من جوهر روحه ووجدانه. لذلك فـ (ذات) المرء هي رأس ماله الأصيل.. ودواخلها مسرح تزكيتها وتنقيتها، وبوابة علوها وارتقائها.. منها منطلقه ومآله.. تنعكس من داخلها لخارجها لا العكس. لحظة إدراك: إن كان ما فقده المرء شيئاً من صميم أصالة روحه، فصعب أن يُعوض وعسير عليه أن يعطيه ويمنحه.. لأنه لم يعد له أصلاً ولا منبتاً، وإن كان ما فقده حالا عارضا، وظاهرا مُتبدّلا، فما أسهل العوض والعطاء، فالنفس هي التي تمنح وما دامت أصيلة نقيّة فلا يزيدها نقص الحال إلا مكرمة، فإذا امتلكته فاضت به وجادت، وليس ذاك عليها بمستغرب، فخيار الناس في حال حاجتهم وفقدهم هم خيارهم عند إعطائه ومنحه كما ورد في الحديث: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) فالأصل دائماً.. غلاّب.