14 سبتمبر 2025

تسجيل

أعلام وأفكار .. الحوار نموذجا

11 يوليو 2015

مما تميز به العلامة الذهبي رحمه الله عن أقرانه تبنيه قضية الحوار مع الموافق ومع المخالف معا، وهي قضية غاية في الأهمية سيما إذا توافقت مع حسن الظن في المخالف وعدم اتهامه، وتركه الإبانة عن نفسه دون مصادرة ولا إقصاء .والمستعرض للقرآن العظيم يلحظ أهمية اهتمام القرآن بالحوار ، بضوابط غاية في الدقة والأهمية معا، لأنه وسيلة فعالة وفاعلة في التقارب لا التباعد والتناصح لا التناطح .الحوار : من المُحاورة ؛ وهي المُراجعة في الكلام . وأما الجدال فهو من من جَدَلَ الحبل إذا فَتَلَه ؛ وهو مستعمل في الأصل لمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ، ثم استعمل في مُقابَلَة الأدلة لظهور أرجحها .والحوار والجدال ذو دلالة واحدة ، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (المجادلة:1) ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس: مناقشة بين طرفين أو أطراف، يُقصد بها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجَّةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، وردُّ الفاسد من القول والرأي .وقد يكون من الوسائل في ذلك: الطرق المنطقية والقياسات الجدليَّة من المقدّمات والمُسلَّمات، مما هو مبسوط في كتب المنطق وعلم الكلام وآداب البحث والمناظرة وأصول الفقه.على أن ثمة نقطة افتراق يمكن أن تكون بين الحوار والجدال تتمحور حول الغاية والهدف، والانتصار للصواب، فيغلب على الحوار ذلك ويغلب على جدال التعصب للأفكار لا للصواب.الغاية من الحوار إقامةُ الحجة، ودفعُ الشبه والفاسد من القول والرأي. فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق.يقول الحافظ الذهبي: ( إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ ) وعليه فالمناظرة عمل له هدفه القائم على إظهار الحق وتجليته لا الانتصار للمذاهب أو الأفكار أو الأفراد.إن الحوار إذا قضية تفاعلية بين طرفين، الهدف منه الوصول إلى الصواب، وهو بهذا المفهوم وسيلة فعالة من وسائل الدعوة إلى الله تعالى، وتبليغ الدين، وهو بهذا المعنى كذلك مراد في الإسلام مع الناس كافة، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}وفي هذا تنبيه على أهمية الحوار مع غير المسلم واختيار الأحسن، فإذا كان هناك أسلوبان أو طريقتان: إحداهما حسنة، والأخرى أحسن منها وأفضل، فالمأمور به اتباع التي هي أحسن.وسر ذلك: أن الموعظة ترجع - عادة - إلى الموافقين الملتزمين بالمبدأ والفكرة، فهم لا يحتاجون إلا إلى موعظة تذكرهم، وترقق قلوبهم وتجلو صدأهم، وتقوي عزائمهم، على حين يوجه الجدال - عادة - إلى المخالفين، الذين قد يدفع الخلاف معهم إلى شيء من القسوة في التعبير، أو الخشونة في التعامل، أو العنف في الجدل، فكان من الحكمة أن يطلب القرآن اتخاذ أحسن الطرائق وأمثلها للجدال أو الحوار، حتى يؤتي أكله" والله تعالى يقول: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} والنبي صلى الله عليه وسلم أرسى ذلك عمليا عبر رسائله التاريخية إلى كسرى وهرقل والمقوقس والنجاشي.فالتقوقع حول جسد الأمة الإسلامية أمر معيب دعويا، والملاحظ في الساحة الفكرية أن"بعض المفكرين والكتاب الإسلاميين يكتبون لأنفسهم، أو لمن يسير في خطهم، ويدعو بدعوتهم، فهم لا يتجاوزون خطاب بعضهم لبعض، كأنه لا يوجد في الدنيا غيرهم! فإن خرجوا من هذه الدائرة كتبوا للفصائل الإسلامية الأخرى، التي تشاركهم الالتزام بالإسلام والدعوة إليه، وإن خالفتهم في المنهج والوسائل والكثير من المفاهيم. فإن تجاوزوا ذلك خاطبوا جماعة المتدينين، وإن لم ينتموا لأي جماعة أو حركة.وأولى بالحركة بعد أن بلغت أشدها، واتسعت قاعدتها: أن توجه خطابها إلى المخالفين لها في الفكر والاتجاه، ولا تدعهم في ضلالهم القديم، وجهلهم الموروث، وسوء ظنهم بالإسلام ودعاته، دون أن تقدم لهم أي شمعة أو مشعل يضيء الطريق.لقد آن للحركة الإسلامية كما يرى العلامة القرضاوي أن تدع الانغلاق على الذات، وتخرج من القوقعة، وتعتبر كل المفكرين المسلمين منها ولها، وتخوض بهم ومعهم لجة الحوار مع كل الأطراف المخالفة، بل حتى المعادية والحاقدة. فلعل الحوار العلمي الهادئ الهادف يجعل المتردد يقتنع، والخائف يطمئن، والمتوتر يهدأ، حتى الحاقد والمعادي قد يخفف من حقده وعداوته".نعم ، لا بد من فتح حوار مع الجميع : حوار مع الذات وحوار مع الغير من بني جلدتنا وحوار مع المخالفين من غير المسلمين الهدف منه: معرفة الحق وبيانه، بغض النظر عن إسلام المخالف واقتناعه من عدمه، فتلك قضية أخرى، والله قد قال لنبيه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. فالهداية شأن إلهي، والبلاغ بالتي هي أحسن مطلب شرعي.