14 ديسمبر 2025

تسجيل

محاكمة العصر

11 يونيو 2013

جلسات محكمة الإسماعيلية في قضية اقتحام السجون المصرية أيام 28ـ 30 يناير 2011، أثناء الثورة المصرية تتجاوز بآثارها مبنى مجمع المحاكم، وحتى القضية المنظورة ذاتها. وإن اختار البعض تعبير محاكمة القرن لإجراءات محاكمة حسني مبارك ووزير داخليته، فقضية اقتحام السجون المصرية تذهب أبعد من مصر إلى عصر عربي اختلطت فيه الأوراق بشدة، وانهار فيه المشروع "العربي واحد يمكن أن يعبر عن الوجود العربي"، وفتحت آفاق الاقتتال الشعوبي والطائفي والمذهبي، وتكاد أن تدين حركات للمقاومة ضد العدو الصهيوني، عندما استحلت هذه الحركات أفعال انتهكت بها الأرض المصرية، وفي لحظة خرج فيها الشعب ليصنع ثورة أذهلت كافة المراقبين، بعمق انتشارها وبحالة المفاجأة في حدوثها، وبغياب التنظيم والقيادة، مما جعلها ثورة شعبية بجدارة. هي محاكمة للقيم والمفاهيم والمقاومة والحالة العربية، قبل كونها محاكمة لأجهزة ومؤسسات ونظام حكم وجماعات سياسية داخل مصر، بل إنها محاكمة لكافة التكوينات السياسية داخل مصر. هي محاكمة لغياب مفهوم وعقيدة حرمة الدم العربي على الإنسان العربي تحت أي راية كانت وأيا كان الشعار الذي ترفعه هذه الراية. ثم هي كاشفة لأمرين تاها وسط خضم الضجيج السياسي الانفعالي بعد الثورة في مصر، ضجيج عالي الصوت، ولكن بلا طحن، الأمر الأول معني ودور القضاء، والقضاء المصري بالذات، ثم مكنون اليقين الوطني للشعب المصري من جسارة عندما يجد أمامه حالة من الصدق واضحة للعيان. هي محاكمة للمصداقية والشرف لدى ثلاث جهات مباشرة حزب الله وحماس وجماعة الإخوان، فإن كان وزير الداخلية المصرية الحالي استحل أن يكذّب الأعين والفضائيات ويقول إنه ليس لديه أسماء أعضاء جماعة الإخوان (33 هاربا من السجون) ولم يجد من يحاسبه، وصارت الكلمات تخرج من الأفواه على الهوى دون مسؤولية، وإن كانت جماعة الإخوان تستخدم الترهيب والتشويه في حملات منظمة ضد القاضي الشاب "خالد محجوب" رئيس الدائرة، ويصل الأمر إلى التهديد بالقتل، والهجوم على المحكمة، فهؤلاء لا عتب عليهم فيما يفعلون، فالذين يستحلون دم الشعب وأرض الوطن وأمنه، لا طائل من أن تطلب منهم الارتقاء إلى قيم غابت عنهم وتكاد تكون عودتها إليهم مستحيلة، الابتسامات الصفراء على وجه قيادات حماس تضعهم موضع الاتهام غير عابئين بالآثار المترتبة على ذلك مستقبلا، إن كان ذلك مقبولا من كل هؤلاء غير أنه غير مقبول من السيد حسن نصر الله ومن حزب الله، وهو حديث له شجونه. نحن أمام وقائع وقاضي وقوى إقليمية وتنظيمات داخلية وأجهزة سيادية وكرسي رئاسة يحتله أحد الهاربين من السجن، وعناصر تحتل المسؤولية واستحلت أمن الوطن. هذه الدائرة القضائية تحاكم العصر العربي والمصري كله. بل إنها تضرب مثالا تعليميا لوقائع جرت الأسبوع الماضي حول أن هناك ضرورات حتى في التقاضي أن يحيل القاضي المحاكمة إلى السرية لأنه يرى أهمية الحفاظ على الشهود من أي تهديد، اعتبر القاضي أن أمن الشاهد مسؤوليته، بينما عقد محمد مرسي اجتماعا مع مجموعة دعاها إلى قصر الرئاسة ليناقش معها أمر قضية "سد النهضة" على النيل الأزرق والموقف تجاهه ووضع الجلسة بكل ما حوت من أحاديث على الهواء، وكأنه يقدم مبررا لمن لا نعلم، بأنه هو الأكثر التزاما بما يؤمر منهم! محكمة جنح مستأنف الإسماعيلية، برئاسة المستشار خالد محجوب، وعضوية المستشارين، وليد سراج الدين، وخالد غزي، فتحت باب محاكمة عصر بأكمله، قيمه وأفعاله والمسؤوليات التائهة فيه، حتى أن محمود وجدي وزير الداخلية أثناء عملية الاقتحام عندما سألته المحكمة، عن اتخاذ ثمة إجراءات تجاه المعتقلين بعد هروبهم قال «وجدي» إن «الشرطة كانت ضعيفة جدا، وكنا نحاول فك حالة الاحتقان، وكان فيه اجتماع في رئاسة الجمهورية حضره نائب الرئيس ومنهم ناس كانوا موجودين في اللقاء»، من السجن إلى حوار، وانتهاك شرف وطن وأمنه القومي أمر ملقى في عرض الطريق. قال المستشار خالد محجوب، إن عضوي اليمين واليسار في هيئة المحكمة "أسود" على حد تعبيره، لأن غياب واحد منهم يوقف نظر الدعوى، وهنا يكمن أمر القضاء، وما يدبر له، فهيئة المحكمة تمثل بالقطع إرادة القضاء المصري وأداءه لدوره، وأيا كانت موجبات أن تنظر عين القضاء إلى داخل القضاة، فهذا أمر واجب عليهم هم، ووفق آلياتهم، ولا يمكن إفساح الباب لسلطة أو مجالس أو قوى سياسية أن تقوم به. هذه هي النتيجة الأولى، قضاء مصر يتحمل عبء كشف الحقيقة وإلزام مؤسساتها التنفيذية والسيادية بعرض ما لديها، وليس أدل على مصداقية المسار وصحته واحتمالات كشفه للحقيقة سوى تلك الحملة المحمومة على شخص القاضي، ومن المواقع الإخوانية، ويصل الأمر بهم بدفع أحد المحامين لرد المحكمة، والسبب أن هيئة المحكمة لم تسلم بما وصل إليها من تحقيقات بل باشرت مهمة التحقيق بذاتها. التهديد بالقتل وحملات التشويه ورد المحكمة، كلها إشارات تؤكد على أن هناك ما لا يريدون كشفه. ولكن هذه التهديدات كشفت أمرا إيجابيا في معدن الشعب المصري، تجسد في مشهدين الأول بالإسماعيلية والثاني في أحد أحياء القاهرة حيث يقطن المستشار الشاب خالد محجوب. عندما بلغت التهديدات بالقتل للرجل أبلغ رؤساءه وجرى تعيين حراسة له، وواكب ذلك محاولات لاقتحام المحكمة، فالتف أهل الإسماعيلية من حول المحكمة وشكلوا درعا بشريا لمبانيها ولأعضائها، صدق هيئة المحكمة استدعى جسارة الشعب، فحماها. وفي القاهرة كان الرجل ينوي إجراء زيارة عائلية مع أسرته وطلب من رجال الأمن ألا يصطحبوه، وفوجئ عند خروجه من منزله، بالتفاف مجموعة من الشباب، من حوله يسألونه إن كان هو المستشار خالد محجوب قاضي محاكمات الهروب من سجن وادي النطرون، فأجاب بالإيجاب وهو لا يعلم قصد السؤال، لتنهال عليه التحية منهم، والإكبار ويصر الشباب على اصطحابه وأسرته إلى حيث هو ذاهب لحمايته، وأمام إلحاحهم يقبل، ولكن المفاجأة أن هؤلاء الشباب يصرون على انتظاره حتى ينتهي من زيارته ليصطحبوه عائدا لمنزله، وهو ما حدث. مشهدان يؤكدان أن الشرف والأمانة والوضوح في الحق، ينتجان الأمان. محاكمة العصر تلف حبالها حول رقاب كثيرة، وتفتح الباب على مصراعيه أمام ضرورات إعادة تقييم الأحداث، وتضع سؤالا هاما أمام الشعب المصري، من يمكنه أن يحمي الأمن القومي لمصر؟ وهل من يقبل باختراق للوطن من عناصر خارجية لصالح أن يخرج من زنزانته يمكن أن يؤتمن على أمن الوطن؟ محاكمة العصر وقائع مستمرة تستدعي اليقظة تجاه قضايا الأمن القومي المصري، أمن الأرض "سيناء وحلايب وشلاتين"، والمياه "من الكونغو الديمقراطي وكينيا حتى دلتا النيل"، والطاقة "في شمال المتوسط التي تستولي عليها إسرائيل"، والشعب وقدراته المسلحة والحفاظ على أسرارها، وآخر مؤشر للاختراق هو قتل أحد ضباط العمليات الخاصة في العريش، وتحديد هويته لا يتم بغير اختراق للستار الأمني من حولهم. ومحاكمة العصر تفرض مراجعة لاستهداف القضاء المصري والأجهزة السيادية المصرية وطبيعة إدارة ملفات الدولة المصرية، خاصة تلك العلاقة مع أمريكا وإسرائيل، ثم الموقف من القضايا العربية، وهل استحالت القضية الفلسطينية إلى قضية تجارة الأنفاق وتأمين لإسرائيل، وصارت القدس مجرد مظاهرة بزي نمطي. اتصل صديق متسائلا عن التوقعات ليوم 30 يونيو حيث الدعوة للمطالبة برحيل مرسي وإجراء انتخابات مبكرة وفق عدة اقتراحات ببدائل، وقبل أن أجيب قال إنه يخشى حمامات الدم، واستطرد أن الإخوان يرتبون للنزول في نفس اليوم، ومعهم جماعات جهادية مسلحة، ودون سؤال مني قال، إن الإخوان قد لا يقتلون، ولكن حماس تقتل، كان الحديث غريبا، ولكنه يشير أن هناك أمورا يجري ترتيبها، فالصديق كان أحد العناصر في الإخوان، وتركهم، وهم لا يريدون الاعتراف بتركه لهم، حتى أن أحدهم اتصل به يوم أحداث الاتحادية 5 ديسمبر 2012 ليتابع معه الاستدعاء إلى الاتحادية، ويبقى حديث ذا شجون إلى السيد حسن نصر الله، إذا كنا معا نرى أن العدو الرئيسي هو إسرائيل، وأنت تعلم موقف مصر والمصريين من وقائع حرب 2006، وأن الشعب المصري كان ظهيرا معنويا وسياسيا لموقفكم، وإننا وجدنا في حركة المقاومة اللبنانية بقيادتكم ظاهرة كما تحدثت أنت كسرت مشروع الشرق الأوسط الجديد والكبير، أفلا ترى أن حديثا منك حول وقائع اقتحام السجون المصرية وإخراج سامي شهاب من السجن والاحتفال به أنه الأسير المحرر، صار واجبا وأنت تملك شجاعة المكاشفة دائما؟ ثم إن قبلنا أن تتحرك أي حركة للمقاومة للإفراج عن أسراها وبكل الوسائل، فهل مصر أرض معادية؟ وإن كانت لديك رؤية تجاه النظام السابق في مصر، فهل يعطيك هذا الموقف الحق لاختراق الحدود المصرية في أكثر لحظات مصر جلالا، لحظة تحرك الشعب المصري لتحرير إرادته من نظام يرفضه؟ إن إجاباتك عن هذه الأسئلة ضرورية علها ترأب الصدع. كافة المؤشرات تؤكد أن محاكمة العصر ستكون نقطة فارقة في مسار الأحداث في مصر ومحيطها العربي، وسيكون هناك ما قبلها من معايير وقياسات وسيكون هناك ما هو بعد أن تنتج نتائجها. لعل الجميع يدرك أن مصر ستبقى مهما كانت المعاناة، وأن الدم المصري كما هو الدم العربي له حرمته، وهو دم محرم، وله ثمنه.