17 سبتمبر 2025
تسجيلأبصر الوالد - بحكم ما منحه الله من عطاء- وجه الطبيعة الزائف، وخطر ما تقدم عليه من مهالك، فأراد أن ينقذ أهله وولده من بحار الشهوات بسفينة النجاة، لكن ولده أبى. ليست قصة مقتصرة على نبي الله نوح بقدر ما هي قصة صراع ممتد بين الأبوة الملهوفة والبنوة المخطوفة، الأول: لا يهدأ، والثاني: لا يفهم. إنها تبرز لنا طبيعة العاق حين تتحدث فيه الغفلة العاقلة والفتوة المغرورة! حين يغرق ويأبي أن يمد يده لأبيه! لقد تعاظم شر العقوق ونما حتى انتقل صاحبه من دور المخالف إلى دور المعاند، فلا يكتف بعدم الانصياع بل يزداد صلفا وغرورا ليقول: سآوي إلى عقلي! يمرون على والده ساخرين من صنعته سرا أو جهرا، وأبوه بلسان حاله يقول: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون. لكنه على العهد مع ولده سيظل يدعوه ويعظه، وإن أيقن هلاكه؛ لان عاطفته كثيرا ما تغلب عقله، أو ربما عقله هو الذي يسمح للعاطفة بالانتصار رأفة بقلب هذا الأب المكلوم. هذا نوح عليه السلام ينادي على ولده والطوفان يتحدث وسفينته تعبر بهم في موج كالجبال! {يابني اركب معنا} قالها نوح بلغة رقراقة: يابني، وهي وحدها كافية في حثه على الاستماع والانقياد، ثم اتبعها بقوله: معنا. وفيها الطمأنينة؛ لأنها معية مأمونة. لكن الإجابة كانت من ولده صادمة: {سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} لم ييأس الأب، ولم تلن قناته، فيرسل له النداء الآخر: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} لا جبال، لا مخابئ، لا عاصم . هكذا حال الوالد في وعظه، وذاك حال الولد في عناده، إلى أن تأتي لحظة التي تتغير فيها صفحة المشهد كاملة. فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء ليكون المشهد الأخير: {وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}. نوح كان يعلم يقينا أن ولده لن يؤمن به، ولن يركب سفينته، لأنه سمع الله يقول:" لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن. فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، واصنع الفلك بأعيننا ووحينا، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " لكنه ظل يعظ وينصح حتى حال الموج! ولعلها رسالة مزدوجة إلى الآباء: لا تيأسوا من روح الله. وإلى الأبناء: لا تغتروا بالفتوة فالطوفان لا يعرف أعالي الجبال.