14 سبتمبر 2025

تسجيل

بين مدينتين

11 مايو 2016

على شاطئي الفرات، ثمّة الجزيرة والشاميّة، وقبائل تقاسمت حزنه وماءه والانتقال إلى الضفّة الأخرى، عبر سفن ومراكب متهالكة. هناك كانت حلب والرقة، توأمان ليس بينهما إلاّ الفرات الهابط نحو الجنوب بهديره الأبديّ.لم أعرف المدينتين كابن مدينة، علاقتي بحلب علاقة طفل بسوق المتعة، بالدوندرمة وخبز الطابونة، وعلاقتي بالرقة علاقتي بما رأيته في عينَي عبداللطيف خطاب وعبد الحميد الخلف ورشيد الحاج صالح وإبراهيم الزيدي. علاقتي بصوت عبدالإله مطرب الكاسيت أواخر السبعينيّات وشارع تلّ أبيض، وحكايات الناس عن مدينة يتقاسمها الشوايا والبدو وسكّان السرايا الأوائل.رأيت عبد السلام العجيلي مرّة واحدة يوم تكريم الجواهري في دمشق، وقلت له مازحًا: "أنا من المغمورين الذين كتبت عنهم". وفي حلب كانت قبيلتي تتقاسم "الصاخور والهلّك والحيدرية وطريق الشيح نجار وطريق الباب". تلك القرى الملحقة بالمدينة وهناك عرفت وصادقت شابّين حلبيّين رائعين، محمد بشير عزيزي من الكلاّسة، وأحمد ويسي في حيّ الميريديان. نال أحمد درجة الأستاذية (الدكتوراه) وفرحنا له كثيرًا، وضاع منّي محمد بشير، فقد باع أهله البيت قبل سنوات، كما غاب عبد اللطيف خطاب بعد مرضٍ مزمن في القلب، وزواج سريع، وتناثر إبراهيم الزيدي ورشيد الحاج صالح وعبد الحميد بين المنافي.حلب لي، والرقة لي، وأنا أنظر إليهما دريئتين عنيدتين أمام الموت، من هنا في الدوحة، غريبًا على الخليج، أقاوم الحنين بالتردّد على دكاكين المنتجات السوريّة.حين أسافر (عائدًا) من حلب إلى القامشلي، وبعد أن يقطع الباص المدينة ويتجاوز مدينة الباب بعد ربع ساعة تقريبًا، ألتفت إلى الشمال، مستحضرًا سرديات الأب والعائلة وقرى ريف منبج، بصلجة واليالني والعوسجلي ومَدَنة، فتحضر طيوف الغائبين الموتى، وهم يسوقون أغنامهم، أو يقطفون العنب، أو يهربون من جفاف السبعينيات إلى وادي الفرات أو بيروت وإلى حلب أخيرًا، وعندما يقطع الباص الفرات ألتفت جنوبًا، وأستعيد صور جدّي سائقًا ماشيته من أبو الكالات إلى أبو كهف، فالشرقراق ثم عين عيسى في حكاية لا تنتهي عن الرحيل إلى ذاك الشمال الخصيب في سنيّ الجدب الطويلة.